الأزمات الداخلية وعلاقات الجوار في المجال العربي

TT

سبق أن تحدثنا في «الشرق الأوسط» عن وقائع الإرهاب والانشقاق والفوضى في أربع دُولٍ عربيةٍ هي: الصومالُ والسودان واليمنُ والعراق. وما تزالُ تلك الواقعات تتوالى في الدول الأربع. لكنْ هناك مستجداتٌ تستحقُّ الذكر والتأمُّل. ففي اليمن يتزايدُ اتهام الحكومة لإيران بدعم الحوثيين بعد أن تسببتْ في إحداث انشقاقهم. إنما في الوقت نفسِه؛ فإنّ أحزاب المعارضة باليمن أصدرت بياناً بدأ بالدعوة للتهدئة والمُصالحة، وإنهاء الحرب لكنه انتهى باتّهام الحكومة بأنّها كانت وراء التصعيد الحاصل بالمسارعة إلى استخدام «الجيش الوطني» في ضرب المتذمّرين بطرائق لم توفّر عشرات الأُلوف من المدنيين الذين تخربت منازلهم ومناطقُ سكنهم ومزارعهم ووسائل عيشهم. أمّا في العراق، وبعد أحداث الأربعاء الأسود؛ فإنّ الحكومةَ العراقيةَ استدعت سفيرها من سورية المجاورة، وطالبت الحكومة السورية بتسليحها عراقيين مقيمين على أرضها، تتهمهم حكومةُ العراق بالمسؤولية عن التفجيرات التي أَوقعت مئات القتلى والجرحى ضد مباني وزارتي الخارجية والمالية. وفي حين تُظهر اعتراضات المعارضة على تصرُّف الحكومة ضد الحوثينين، المزيد من الانقسام السياسي الوطني؛ فإنّ ما يحدث بين العراق وسورية الآن، يذكّر بما كان يحدث بينهما أيام صدام حسين وحافظ الأسد فيما بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي!

والواقع أنّ أحزاب المعارضة اليمنية، وأهمُّها حزب الإصلاح (تحالف بين الإخوان المسلمين وقبائل حاشد) والحزب الاشتراكي (الذي كان حاكماً بجنوب اليمن، ثم صار شريكاً للرئيس علي عبد الله صالح في الحكم دولة الوحدة) ظلّت حليفةً وشريكاً للرئيس وحزبه حتى أواخر الستينات من القرن الماضي. ثم قرر الرئيس وحزبه (حزب المؤتمر) الاستئثار بالسلطة، واتجهت الأحزاب المتعددة والمتناقضة في البرامج والرؤى وبالتدريج إلى التحالُف في مواجهتهما. وقبل ثلاث سنواتٍ صرَّحتْ تلك الأحزابُ بأنها ما عادت تريد علي عبد الله صالح رئيساً مدى الحياة. وزاد من التباعُد بين الرئيس وحلفائه السابقين، وفاة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر زعيم جبهة الإصلاح، والذي كان يمارسُ سياسةً وسطيةً قِوامُها « شعرة مُعاوية» التي كان يقولُ ضاحكاً إنّ طرفيها استقرا بيده بدلاً من أن يكونَ أحدُهما بيد الرئيس علي عبد الله صالح! وقد اعتقد الرئيس أنه ما عاد محتاجاً إلى الاشتراكيين الذين خانوه في محاولة الانفصال عام 1994، كما لم يعد مُحتاجاً إلى الإصلاحيين، لتصاعُد نزعاتهم السلفية التي أساءت لعلاقاته مع الزيود من جهة، وهدَّدت الطابع المدني للدولة من جهة ثانية. وزاد من يقينه بصوابية الاستئثار إقبال الولايات المتحدة على دعم نظامه في مُواجهة القاعدة التي عششت في بعض نواحي اليمن منذ حوالي العقد من الزمان.

أمّا الذي لم يحسب له الرئيس حساباً فهو التمرد الحوثي، ثم الحِراك (الانفصال) الجنوبي. ولا شكَّ أنّ حزب الإصلاح لا علاقة له بالأمرين. بل إنّ بعضَ قبائله وسلفيّيه قاتلت في الحروب الماضية ضد الحوثيين. ثم إنه ليس كبير الشعبية في جنوب اليمن. أمّا الحزبُ الاشتراكيُّ فيلعبُ أنصارُهُ دوراً (غير كبير) في الحِراك الجنوبي. وقد أجاب حزب المؤتمر الحاكم على بيان المعارضة بدعوتها للتوسط مع الحوثيين من أجل إنفاذ «الشروط الستة» التي طالب بها الجيش المتمردين. وهذه إجابةٌ مُحرجةٌ وتعتمدُ المُزايدة والتحدي. بل إنها تدلُّ على أنّ العلائق بين الأطراف السياسية والنظام بلغت حدوداً من التوتُّر ما عادت تسمحُ بالتعاوُن في السياق الوطني العامّ. وقد كان ممكناً لشيوخ الزيدية الكبار (وبينهم بدر الدين الحوثي والد زعيم التمرد الحالي) التدخُّل لرأْب الصَدْع قبل سنتين؛ لكنّ الرئيس لم يقبل، كما أنّ الشيوخ انزعجوا كثيراً لما أصاب مناطق سكنى طائفتهم من خراب. ولذا فإنّ الأمل الحاليَّ للحكومة ينحصرُ في قدرة الجيش على الحسْم، كما في اعتبار النزاع مع الحوثيين نزاعاً إقليمياً بحيث تتدخل الولاياتُ المتحدة وبريطانيا ودول الخليج لدعم النظام اليمني فيه. ورغم القُدرات التنظيمية والتسلُّحية للحوثيين؛ فإنّ عندهم نقطتي ضَعفٍ قويتين: أنهم تمركزوا على الحدود مع المملكة العربية السعودية، وأنهم حاولوا من خلال التمركز على طريق صنعاء ـ صعدة، قَطْع الطريق بين العاصمة والمناطق الشمالية، والشمالية الشرقية. وهذان الأمران يبرران الاتّجاه لضربهم دون هوادة، ويقلّلان من التعاطُف معهم.

وعلى أيّ حال فإنّ بيان المعارضة اليمنية، لا يُضْعِفُ الحكومة أو حُجَجَها في المدى القريب؛ بل إنه يدلُّ ـ كما سبق القول ـ على سوء العلاقة بين الطرفين؛ بحيث إنّ أزمة وطنيةً بهذا الحجم الكبير، ما استطاعت جَمْعَهُما على متطلباتٍ للحدّ الأدنى الوطني والقومي والإسلامي. إنما من المُذْنِبُ في ذلك؟ النظامُ والرئيس يتحملان في الأرجح القِسْطَ الأَوفَرَ من المسؤولية.

وإذا كانت الحكومة اليمنية تجد صعوبةً في تصوير المشكلة مع الحوثيين ـ وليس مع القاعدة ـ بأنها مشكلةٌ إقليمية؛ فلا شكَّ أنّ المشكلة العراقية دوليةٌ وإقليميةٌ منذ مطلع التسعينات. وقد زاد طابعُها الخارجي وسياقُها وتفاقما بعد الغزو الأميركي عام 2003، وانطلاق المقاومة ضد الغزو بدعمٍ من سورية، وبعد العام 2005 من إيران أيضاً. ومنذ بروز ظاهرة الزرقاوي 2004/2005 وحتى مقتله عام 2007، تصاعدت شكوى الأميركيين ثم العراقيين، من التدخل السوري أو العناصر الآتية من سورية في زعزعة الأمن بالعراق. وبخاصةٍ بعد تزايد التفجيرات المتبادَلة بين السنة والشيعة، وليس ضد الأميركيين. ويقال إنّ العراقيين في العام 2006 شكوا للإيرانيين وطلبوا وساطتهم مع السوريين لإيقاف تسريب السلاح والمسلَّحين إلى العراق. والطريف أنّ اللبنانيين يومَها كانوا أيضاً يوسِّطون كلَّ أحدٍ مع سورية لإيقاف تسريب السلاح والمسلَّحين والتفجيرات والاغتيالات إلى الأراضي والمدن اللبنانية!

وفي العام 2008 بدا أنّ شيئاً من الانفراج بدأ يتسلل إلى العلاقات بين سورية والعراق، على وقع الضغوط والاتصالات الأميركية/السورية من جهة، وحسْم إيران للمسألة باعتبار العراق ساحةً منفردةً لها أو أنها تملكُ فيه القرار، في حين تتحرك سورية في المدى اللبناني. ثم إنّ ما كان تصوراً وتقديراً أواخر أيام بوش، صار واقعاً أيامَ أوباما. فطوال ثمانية أشهُرٍ ما غاب المندوبون والدبلوماسيون والمبعوثون الأميركيون والأوروبيون عن سورية. وقيل دائماً إنّ المقصودَ إبعادها عن إيران. لكنّ الأميركيين أيام أُوباما لا يتحدثون بطرائق أيديولوجية أو جيواستراتيجية؛ إنما بشكلٍ محدَّدٍ وواقعي: عدم التدخل بالعراق، وعدم التدخل بلبنان، والدفع باتجاه التوحُّد في فلسطين. ولذا فإنَّ السوريين رغم شدة حرصهم على العلاقات المستجدة مع أميركا أوباما، ظلُّوا يفضّلون المقاربات التركية والفرنسية، باعتبارها تتيح لهم حرية حركةٍ ونفوذاً في لبنان وفلسطين على الأقلّ. وبدا لشهورٍ أنّ سورية سوف تحصُلُ على كلّ ما تريد ودفعةً واحدة. وذلك لأنّ المراقبين إنما كانوا يسجلون وصول وفود المبعوثين، دونما معرفة ما يحملونه أو ما يطلبونه. لكنْ في الأسبوع الماضي وصل رئيس الوزراء العراقي إلى دمشق، وفي الوقت نفسِه وصل وفدٌ عسكريٌّ أميركيٌّ لعقد اتفاقٍ حول أمن الحدود بين سورية والعراق. والذي يبدو أنّ التصورات المتناقضة للطرفين، أو الرؤى السياسية المختلفة بين الأميركيين والسوريين حالت دون عقد الاتفاق. فانسحب الأميركيون من سورية، وذهب الرئيس الأسد إلى طهران غاضباً داعياً لتحالُفٍ رُباعي يضمه مع إيران وتركيا والعراق. وحصلت التفجيرات في العراق التي حصدت مئات القتلى، وظهر شخصٌ على التلفزيون العراقي يقول إنه هو الذي خطَّط ونفّذ تفجيرات وزارة المالية ببغداد بطلبٍ من رؤسائه في سورية، وطلب العراق تسليمه مرتكبين تؤويهم سورية، وجرى تبادُلُ سحب السفراء، وهاجم السوريون الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة بلبنان، بينما هاجم الأميركيون التدخلات السورية في الشؤون الداخلية اللبنانية!

في اليمن إذن أزمة نظامٍ لن يحلَّها حتى القضاء على الحوثيين. أمّا في محيط «الهلال الخصيب» بالتعبير البريطاني، فهناك أزمةٌ مُفاجئةٌ في العلاقات الجديدة والهشة بين الولايات المتحدة والنظام السوري، وهي تنعكس سلباً في العراق وفلسطين ولبنان.