مسموعون غير مرئيين

TT

كان من عادة الرئيس الراحل شارل حلو، كلما حدثه أحد عن سياسي لا يعرفه، لبناني أو عربي، يقاطع محدثه سائلا: «لمن يسمع؟»، وأحيانا يقول: «لمن يصغي؟»، وإذا كان شديد الاهتمام قال: «مَن يشير عليه؟». وكان الرئيس حلو يعتقد بأن العقل الإنساني لا يمكن أن يعمل بكل طاقته، إلا بالمشاركة مع عقل آخر. وكان يقول إن العقل والمعرفة والقوى الراقية في الإنسان لا يمكن أن تزدهر إلا بالمؤالفة. والحكمة الكبرى ليست في القول، بل في الاستماع. والعقل محرك جبار يتجه دوما نحو الدفع، لكنه يحتاج إلى كوابح وإلى أنوار وإلى «زمور» يحذره كلما كاد يؤذي أحدا.

وكنت أسأله لمن يصغي هو، وكان يستجمع سنواته وثقافاته وخبراته ويقول: «الذين أستمع إليهم كثيرون. أصغي إلى أصوات الكتب (مشيرا إلى آلاف الكتب أمامه)، وأصغي إلى ذوي الخبرة، وأصغي حتى إلى رفاقي في لعب الورق، ولكنني أطلب المشورة من رجل واحد. وقبل أن أطلبها أكون واثقا بأنني سأعمل بها»، ثم يمد يده إلى قطعة حلوى صغيرة ويضحك ملء القاعة ويقول: «وهناك نوع آخر من المستشارين. أولئك الذين أسألهم رأيهم لكي أعمل تماما بعكس ما ينصحون».

فؤاد شهاب كان أيضا يصغي، وخصوصا في الشؤون التي يعرف عنها ولا يعرف فيها. والرئيس أمين الجميل كان يحب أن يتظاهر بالسمع ويرفض أن يمنح أحدا شرف الإصغاء. الكبرياء الرئاسية لا تسمح. وقد سمع أكثر الرؤساء إلى الراحل ميشال أبو جودة، وإلى الأستاذ جان عبيد، الذي ترك الصحافة إلى العمل السياسي. وفي السياسة ظل يسمع ويصغي ويطلب الرأي. وكان الراقي تقي الدين الصلح هو «العقل العربي» «للعقل الافرنجي» الذي يحمله فؤاد شهاب وشارل حلو. وقد عمل رئيسا للوزراء مع الرئيس سليمان فرنجية، لكنني أعتقد أن كبرياءه لم تكن تسمح له بالإصغاء إلى مستشارين.

وكان الرئيس صائب سلام من فئة المستمعين والقابلين بالنقاش. وتواضع إلياس سركيس كثيرا أمام رأي الآخرين وخبراتهم ومعارفهم. وجمع الرئيس رفيق الحريري حوله أكبر عدد من المستشارين وجعل لهم مناصب رسمية، كما في أميركا، وجعل منهم حكومة موازية، كما في أميركا، بسبب مقدرته المالية على تجاوز الإمكانات الحكومية.