أحمل (الكمرة) بدلا من البندقية

TT

دعاني لحضور معرضه الفني للتصوير (الفوتوغرافي)، وسعدت كثيرا بتأمل اللوحات التصويرية التي تنم عن موهبة لماحة باختيار المواضيع والأوقات والزوايا والظلال والأشعة.

وفن التصوير ليس سهلا كما يظنه البعض، ولكنه معقد وصعب، وأشبه صاحبه كقافز الحواجز على حصانه، فكلاهما يكمل الآخر، فلا الحصان وحده يجدي ولا الفارس كذلك وحده يجدي.

والمصور أيضا بدون (الكمرة) لا يجدي كما أن الكمرة وحدها لا تجدي.

(والكمرة) في يد (الغشيم) مثلي ليس لها تأثير حتى لو كانت من أرقى الماركات وأغلاها.

وذلك الفنان المصور الذي ذهبت إلى معرضه، رجل يكاد يذوب من فرط رقته وإنسانيته، فقد كان يرى العالم كله وكأنه (بورتريه) يجب رصده والمحافظة عليه، وقد حسدته على تلك الشفافية الراقية، وتمنيت لو أنه يمنحني ربعها لأحسن من وضعي المتأزم، وأهذب من وحشيتي التي تتملكني أحيانا.

مكثت في ذلك المعرض أكثر من ساعة ونصف، وقعدت معه في ركن المعرض نتجاذب أطراف الحديث، وكنت في أغلب الوقت مستمعا له ومبهورا بوجهة نظره الصائبة نحو الطبيعة والكائنات، وعرفت منه أن تلك الهواية التي أصبحت مهنة له فيما بعد، ترسخت معه منذ الصغر، ومنذ أن حصل على أول آلة تصوير في حياته، وقال لي: إنني لا أنسى عندما أخذني والدي المحب للصيد معه إلى البر وكان عمري 13 سنة وذلك لكي يعلمني الصيد والرماية بالبندقية، حيث إنه مؤمن بالأثر القائل: علموا أبناءكم الرماية والسباحة وركوب الخيل، وقد تعلمت السباحة فعلا وركوب الخيل كذلك ولم يتبق لي غير الرماية لكي أتعلمها.

وأخذت معي وقتها إلى جانب البندقية (كمرة) التصوير التي لا تفارقني حتى في فراشي، وعندما شاهدها والدي تعجب من أخذي لها حيث إن ذلك ليس مجالها مثلما لمّح لي.

ذهبت معه مرغما ومن الصعب أن أعصي له أمرا، لأنه رجل قوي الشكيمة ويريد أن يربي أبناءه على الخشونة منذ نعومة أظافرهم.

وكان الوقت شتاء، وانطلقنا بعد صلاة الفجر على أقدامنا في طقس زمهريري، وكنت وقتها أرتجف من شدة البرد وشدة الخوف والأسى والرحمة على الطيور التي سوف نقتلها.

وشاهد والدي بمنظاره مجموعة من طيور البط المهاجرة وهي ترعى على الأرض بأمان وسلام، وأخذنا نقترب منها رويدا رويدا ونحن نختبئ خلف شجيرات قصيرة، وعندما اقتربنا منها دون أن تلحظنا، توقفنا عن الحركة، وجلسنا في وضع الرماية، وقال لي والدي: استعد وعندما أعد لك: «واحد اثنين ثلاثة» أطلق عليها الرصاص، وأمسكت ببندقيتي وشعرت ببرودة مقبضها على وجنتي والتوى إصبعي على الزناد، وعندما انتهى والدي من العد صاح بي قائلا أطلق، غير أنني تسمرت، واستمر في حثي على الإطلاق، ولكنني أخذت أرتجف ثم أجهشت بالبكاء قائلا لوالدي: إنها جميلة وسعيدة وتزخر بالحياة، فغضب مني وصوب بندقيته عليها، ولا أدري كيف واتتني الشجاعة بالإمساك ببندقيته ورميتها على الأرض، ثم أخذت حصاة وقذفتها على الطيور التي حلقت هاربة، وران علينا صمت ثقيل وتوقعت أنه سوف يضربني، ولكنني تفاجأت به يحتضنني ويمسح بكمه دموعي، ورجعنا نسير إلى خيمتنا، وقبل أن نصل شاهدنا مجموعة أخرى من الطيور، وتوقف قائلا لي: استعد، فأغمضت عيني فزعا، وإذا به يلكزني على كتفي قائلا: هيا أسرع قبل أن تطير وتفوتك، وعندما فتحت عيني رويدا رويدا وإذا به يمد لي (كمرة) التصوير، وأسرعت بالتقاط صورة لها ما زلت أحتفظ بها.

[email protected]