سبحان موزع المواهب وحاجبها

TT

قبل سنوات جاء فريد زكريا من الهند إلى أميركا لدراساته العليا. ولم يعد. لقد أصبح أحد ألمع أقلام أميركا وأحد ألمع وجوهها التلفزيونية وأحد ألمع مؤلفيها. إنه كل أسبوع على شاشة «سي إن إن»، حيث يتمنى كبار السياسيين الأميركيين أن يكونوا في عداد ضيوفه. وأما الخرق الآخر فهو أن عنوان مقاله الأسبوعي يكفي لأن يكون ـ وحده ـ غلافا لمجلة «نيوزويك».

لم يبلغ مسلم مهاجر المكانة والاحترام والتأثير الذي بلغه فريد زكريا على سطح الإعلام الأميركي. ولم يخاطب مثقف، غير أنكلوسكسوني الأصول، الأميركيين بهذه اللهجة الإصلاحية الفكرية والمتفوقة، دون أي تعال أو ادعاء. لا. لا يطرح فريد زكريا نفسه خارجا على مؤسسة النخبة الأميركية ولا خصما ولا عدوا ولا مغايرا. إنه أكثر فعالية من ذلك بكثير. إنه النموذج الذي يتمنى أن يكونه، أو أن يقلده، الأميركي الراقي ذو الآفاق والمشاغل الإنسانية.

ليس توماس فريدمان. ففي كتبه وكتاباته هو مفكر ذو أسلوب جذاب ولغة طرية ثرية، وليس مجرد مراقب صحافي. وهو ليس إدوارد سعيد آخر، فقد خرج من برجه الأكاديمي، وخرج خصوصا من أسر ذاته. فهو الذي يدور حول الدنيا، وليست هي التي تدور حوله. والذين سيؤرخون له ذات يوم، قد يقولون إنه لصحافة أوائل هذا القرن ما كانه والتر ليبمان لصحافة أوائل القرن الماضي. ذلك المزيج الصعب والنادر من الفكر السياسي برغم الغرق في العمل الصحافي الاحترافي.

لا شك أن فريد زكريا رفع القارئ الأميركي إليه، وأنقذ مجلة «نيوزويك» التي كانت تفقد قاعدتها بسرعة ظاهرة ومعيبة. والمهمتان شاقتان. فالمبيعات الواسعة تتطلب عادة النزول إلى القارئ، وتلبية أذواقه المطبخية والغنائية وتقديم العروض التي هي عادة من اختصاص الدكاكين والبقالات والمسارح الخلفية.

أثبت فريد زكريا العكس. أي أن جمهور المعرفة ومستويات الذكاء والثقافة اللائقة، لا يقل كثيرا عن جمهور «عقيل إخوان» حيث لكل زبون ما يحتاج دون أن يكون له ما يطلب. أو ما يريد. نادرون هم الأفراد الباهرون الذين فرضوا أنفسهم بمثل هذه الأحقية على المجتمع الأميركي. ففي هذا المجتمع يمكن أن تروِّج لعلكة الشيكلس ومبيدات الحشرات وأفلام رامبو. لكن إذا أردت موهبة مثل فريد زكريا فيجب أن تسافر إلى الهند