إيران.. الثورة والدولة واللغة

TT

للثورة منطقتها وخطابها وأحلامها وأوهامها ووعودها ووعيدها، قبل الوصول.. ولها منطقها المغاير كليا أو جزئيا، ولها أولوياتها، بعد الوصول.. وللدولة منطقها بين التأسيس والترسيخ، أي من زمن الدولة الموصول بزمن الثورة، إلى زمن الدولة المتباعد عن زمن الثورة، وما بينهما من مستجدات في الرؤية والتجربة والتحدي والسؤال ونظام المصالح.. وفي المحصلة يتضح أن الدولة غاية الثورة، وإلا كانت عبثا في عبث أو مغامرة تنتهي إلى مقامرة. وهنا يحق لنا أن نشك في براءة شعار الثورة الدائمة لدى تروتسكي الذي كان قد أكد شكنا عندما قاد المذبحة ضد العمال في (كرونشطاد) وزيرا للدفاع وقائدا ميدانيا، على الطريق من الثورة إلى الدولة والسلطة لاحقا، حيث تصبح الدولة أو السلطة غاية والثورة ذريعة يتم تجديدها عند الحاجة، وإن كان ضحاياها قد بلغوا (38 مليون) قتيل في الصين إبان الثورة الثقافية، أي تجديد الثورة من أجل ترسيخ السلطة. يومها كان الشعار ديكتاتورية البروليتاريا التي صدقته، فكانت (كرونشطاد) لتحديد المسار بدقة (سلطة السوفيات) لا الحزب وطبقته، ليؤول الأمر إلى سلطة الأمين العام لا باعتباره الحزبي بل لأنه رأس السلطة أو الدولة.. بكى تروتسكي بعد فعلته على رضا من لينين أو تباكى، بدموع كأنها توراتية أو تلمودية بلغت في ذرائعيتها حد أنها ورطت الروس في الثورة لتعود فتورطهم في السلطة.. هذا لن يؤدي إلى الوقوع ثانية في الغباء الذي يعلي من شأن اللادولة فيؤدي بنا إلى الاستبداد، بل إلى التشبث بالدولة معطى للديمقراطية يتجدد ويترسخ بقدر ما يتيح ترسيخ هذه الديمقراطية.

الثورة الإيرانية التي تحتاج إلى نقاش في انطباق مفهوم الثورة عليها، لم تحاول، ولو حاولت لما استطاعت أن تضع نفسها خارج هذه الإشكالية.. قبيل نجاح الثورة، كنا في زيارة الإمام الخميني في (نوفل لوشاتو) في فرنسا.. بعد غداء بسيط تساءل الشهيد محمد صالح الحسيني عما إذا كانت دولة الثورة العتيدة سوف تتعاطى بنظام السمة (الفيزا) مع الرعايا العرب والمسلمين الراغبين بالسفر إلى إيران.. وتساءل بحماس عما إذا كانت ستبقى هناك ضرورة لاستخدام الجوازات.. وزاد فاقترح ألا تكون في القانون أي قيود على عمل أولئك الرعايا في إيران.

بعد نجاح الثورة وبداية تشكل الدولة، أخذنا نعاني قليلا في الحصول على (الفيزا) وفي تمديدها إذا ما اضطررنا إلى ذلك في طهران. كانت معاناتنا استمرارا أو ثمرة للمبالغة في تصورنا لطريقة الأداء المفترض أو المرغوب اتباعها من قبل الدولة تجاهنا كأنصار فعليين أو محتملين، وهو ما يعود إلى عدم واقعيتنا وفهمنا العاطفي لطبيعة الدولة ووظيفتها وحساسيتها القومية أو الوطنية، على الرغم من كل التجارب الأممية أو القومية التي تعرفنا إليها وأثرت، وأحيانا بتزمت شديد، ضرورات واقعها الوطني أو السلطوي على وعودها أو ما كان يتوقع منها من دون وعود.. ولم ينفك الإخوة المتحمسون أن مالوا إلى واقعية مفرطة بعض الشيء، ذقنا فيها بعض المرارة.. كان الشهيد الحسيني يتحدث إلى السيد جلال الدين فارسي (المرشح الممنوع من أول رئاسة في إيران) حول شأن إيراني ذي علاقة بالشأن العربي واللبناني، فحاولت أن أدلي برأيي المخالف باندفاع، فردعني الحسيني، مؤكدا أن المسألة إيرانية وأنا لبناني، واستنجدت بفارسي، فأكد لي صحة رأي الحسيني، فودعتهما وعدت إلى منزلي خائبا!

لماذا؟ أليست هذه طفولية ثورية ومن الضروري أن تدخل في التجربة لتبلغ رشدها، وتفرق بين ضرورات الدولة وضرورات الثورة؟.. حسنا ولكن إلى أي حد؟.. كان صديقي المتحدر من أسرة أذرية عريقة وفاعلة، حفيدا لأمير كبير (الصدر الأعظم المجدد في أواسط القرن التاسع عشر في إيران)، يتحدث أمامي بلغة عربية سيالة مع إمالة لبنانية في أحرف المد تشبه الإمالة الطهرانية، وإن كانت في الأساس من خصائص الفصحى العربية.. وكان بين عبارة وأخرى يقع في خطأ نحوي أو صرفي لا يثير غضبي ولا تعجبي، بل يذكرني ويؤكد لي مرة أخرى أن صديقي الفصيح إيراني وقد فاته ولأسباب تكوينية بعض أسرار العربية.. والذي فاجأني، لا لأنه استثنائي، بل لأني كنت أجهله، وكان ينبغي أن أعرفه، هو أن صديقي شكا لي من أن مكانه في مواقع حساسة في الدولة، قلق جدا ومحدود وممنوع من التقدم، مهما يكن نشاطه، وذلك، في رأيه ورأيي، عائد إلى نشأته الأولى في العراق، والثانية في لبنان، مرورا بألمانيا، ما جعله موسوما بالغربة عن التكوينات الغائرة في الذات الفارسية والبنية الذهنية الإيرانية عموما.

وأكد لي الصديق أنه يتمرن يوميا على الطريقة الإيرانية في الإقلال من المكاشفة والكشف، ولكنه في لحظة الانفعال يقول كل ما في بطنه، بشكل يقنع الإيراني الآخر بأن مثل هذا الصديق لا يجوز أن يتوغل في الإدارة الإيرانية.. ويصرخ صاحبي قائلا إنه ومنذ عشرين سنة وهو يرى نفسه إيرانيا أصيلا مرة في الشهر أو شهرا في السنة، وفي لحظة ما يعود فيقتنع بأنه عربي، ولا يلبث أن يتعثر في نطق مفردة عربية صعبة، ليدرك أنه معلق بين المستعرب أو المتعرب والعربي المتفرسن.

بعدما اكتمل علم سيبويه بالعربية، أراد مزيدا من الضبط ومعرفة السر اللغوي، فتزوج بدوية أقنعها بأنه عربي، وفي إحدى الليالي قام إلى فراشه ناسيا السراج مضاء، فطلب إلى زوجته أن تطفئه قائلا: (اقتلي السراج) مترجما حرفيا للتعبير الفارسي (جراغ راخاموش كن).. صعقت الزوجة وقالت: أنت لست عربيا، فقال: لماذا؟ قالت له: لا أحد من العرب يستعمل فعل القتل للسراج، قال: وهل أنت عالمة بكل لغات الغرب؟ قالت: بلى، فقال: إذن فقولي لي على لغة من هذا البيت:

«إن الأناكير ساهت بعدما سَبُزَتْ

واشرَوْرَنتْ بعدما كانت تراشيشا».

لقد عمد سيبويه إلى مفردات فارسية فبنى بيته من الشعر بشكل عربي، وحقيقة فارسية هي (إن الأناكير) أي عناقيد العنب، (ساهت بعدما سبزت) أي اسودت بعدما اخضرت، (واشرورنت) أي حلت، (بعدما كانت تراشيشا) أي حامضة. وأسقط في يد الزوجة..

كان إريك رولو بعد أشهر من نجاح الثورة يحاورني بعد الغداء على مائدة السيد حسين نجل الخميني في قم.. قال: «إنه الإسلام في إيران من دون شك، ولكن أليس هو إسلاما إيرانيا؟».. نفيت الملمح أو البعد القومي بشدة أممية.. فابتسم رولو وأغلق دفتره.. وقال: «نتحدث بعد سنتين».. لم نلتق بعدها، ولو التقينا لوافقته، وإلا فهو سيذكرني بأن صديقي جلال فارسي كان مرشحا أقوى من بني صدر لأول رئاسة في إيران، وكان مؤيدا من الخميني (كما شهدت ذلك شخصيا) ولكنه أُقصي إلى زاوية في منزله لأن والدته أفغانية في بطاقة هويتها الإيرانية.

* مفكر وكاتب لبناني عاصر الثورة الإيرانية وشارك في أحداثها منذ بدايتها