دول المجلس وإيران: إلى أين؟

TT

تتشارك منطقة الخليج العربي في خصوصيات فريدة لا تشاركها فيها إلا مناطق قليلة من العالم. فبجانب كونها تمثل المخزون النفطي الأساسي في العالم، وكونها من أكثر المناطق التي شهدت حروبا ضارية خلال العقود الثلاثة الماضية، وبجانب احتوائها ومنذ أعوام طويلة على وجود عسكري خارجي مكثف، فإن هذه المنطقة متجهة اليوم إلى امتحان عسير وخطير أفرزته التطورات الأخيرة التي تمثلت في تولي إدارة أميركية جديدة للسلطة في واشنطن وإعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد في إيران لدورة رئاسية ثانية. لقد وصلنا اليوم إلى مفترق طرق مهم سيحدد مستقبل البرنامج النووي الإيراني، وقد يحدد معه معالم ومستقبل منطقة الخليج العربي لعقود زمنية مقبلة.

ونجد اليوم ثلاثة سيناريوهات أساسية ماثلة أمامنا ترسم تطورات المرحلة المقبلة لكل منها تبعات ثقيلة لا يمكن تجاهلها:

السيناريو الأول يقوم على افتراض قيام الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي بالامتناع أو بالتردد في اتخاذ مواقف رادعة وحاسمة تجاه إيران، وهو ما يسمح لإيران بالاستمرار في تطوير برنامجها النووي حتى تتمكن من الوصول إلى إنتاج السلاح النووي. وهذا السيناريو ستكون له تبعات كارثية على الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة الخليج لسنوات طويلة قادمة، وسيزعزع أسس موازين القوى الإقليمية، ويجر المنطقة لجولة جديدة وخطيرة من سباق التسلح بالأسلحة النووية.

السيناريو الثاني يقوم على افتراض قيام الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عبر آلية مجلس الأمن، أو عبر آلية خاصة مستحدثة لتحالف دولي يعمل خارج إطار مجلس الأمن (أميركا، الاتحاد الأوروبي، والدول الحليفة) باتخاذ سياسة جديدة تقوم على فرض عقوبات اقتصادية ومالية ودبلوماسية صارمة وشاملة على إيران من أجل إجبار النظام الإيراني على التخلي عن الاستمرار في برنامج الدولة النووي، أو من أجل إخضاع البرنامج للإشراف والمراقبة الدولية دون قيود أو شروط. وهذا الاختيار، على ما يبدو، هو الاختيار المفضل لإدارة الرئيس أوباما في هذه المرحلة. فقد أشارت وزيرة الخارجية الأميركية إلى احتمال فرض عقوبات اقتصادية «صارمة» على إيران في حالة عدم استجابة الحكومة الإيرانية لدعوات الإدارة الأميركية الجديدة بالتفاوض المباشر لحل مشكلة برنامج الدولة النووي. ولم تقم الحكومة الإيرانية بالاستجابة لهذه الدعوات حتى الآن، إما رغبة في كسب المزيد من الوقت واتباعا لسياسة التسويف والمراوغة التي تخدم تقدم البرنامج، أو أنها لا تجد مبررا للدخول في مفاوضات تعلم مقدما أنها تتطلب تقديم تنازلات كبيرة ستحد من استمرار وتقدم برنامج الدولة النووي وقد تحرمها، في نهاية المطاف، من تطوير وامتلاك السلاح النووي.

وقد ظهرت أخيرا معالم خطة «المقاطعة الصارمة» التي تفكر واشنطن في تبنيها ضد طهران في حالة عدم استجابة النظام الإيراني لدعوات التفاوض وإيجاد الحلول الدبلوماسية للخلاف القائم. فبناء على المعلومات التي قامت واشنطن بتسريبها حول شكل العقوبات التي يمكن فرضها على إيران نجد أن هذه العقوبات تشمل مبدأين، الأول هو استهدافها جميع أنشطة الدولة الحيوية، ثانيا كونها عقوبات «تصاعدية» تزداد شموليتها مع استمرار الرفض الإيراني.

وأهم ما في هذه العقوبات المقترحة أنها تمس قطاع الطاقة المصدرة والمستوردة من وإلى إيران، هذا بجانب نظام المقاطعة الاقتصادية الأميركية الذي كان قائما منذ عام 1996 ويستهدف منع أي استثمار خارجي في تطوير قطاع الطاقة الإيراني. فالمقترحات الجديدة تتكلم عن فرض قيود على تصدير النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية، في ظل افتراض أن الأسواق الدولية وعند فرض العقوبات ستكون قادرة على التعامل مع اختفاء ما يقارب مليوني برميل نفط يوميا من السوق وهو ما يمثل حصة إيران التصديرية. الإدارة الأميركية تعتقد أن فرض القيود على تصدير النفط الإيراني أمسى ممكنا في ظل انخفاض الطلب العالمي على النفط، وفي ظل توافر إمكانيات إضافية لإنتاج وتصدير النفط في دول أخرى، وخاصة في المملكة العربية السعودية ودول أخرى كالعراق وليبيا وهو ما يمكن معه تعويض أي نقص ينتج عن اختفاء النفط الإيراني من الأسواق العالمية. الخطة تذهب إلى أبعد من ذلك وتتكلم عن إمكانية منع تصدير المنتجات النفطية المكررة إلى إيران وخاصة مادة الكازولين والبنزين، ويعتقد أن هذه الخطوة ستؤثر بشكل كبير في حياة المواطن الإيراني لكون إيران لا تنتج ما يسد حاجتها وتعتمد على استيراد هذه المواد بنسبة تزيد على 40% من حاجة الدولة. لذا فإن اختفاء ما يقارب النصف من حاجة السوق الإيرانية الداخلية للمنتجات النفطية سيكون له تأثيرات ملموسة على اقتصاد البلاد وعلى تلبية المتطلبات الأساسية للمواطن الإيراني. وتستمر قائمة العقوبات لتشمل فرض عقوبات على جميع شركات التأمين الدولية التي توفر غطاء تأمينيا للنشاطات التجارية الإيرانية من الاستيراد والتصدير، وهذه الخطوة ستؤدي افتراضا إلى عرقلة أغلب النشاطات التجارية الخارجية للدولة. ولكون هذه العقوبات المقترحة ذات طبيعة «تصاعدية» فإن المرحلة الثانية من نظام العقوبات تفترض أن تشمل منع جميع السفن والطائرات الإيرانية من الإبحار أو التحليق في المياه والمجالات الجوية للدول المشاركة في نظام المقاطعة، ومنع السفن من الرسو في الموانئ البحرية ومنع الطائرات الإيرانية من استخدام المطارات الدولية. وهناك عقوبات أخرى تشمل فرض القيود على القطاعات المالية والمصرفية وغيرها.

ما يهمنا من هذه العقوبات المقترحة أن الدول الخليجية ستكون في خط المواجهة الأول لتطبيق نظام العقوبات المقترح. فبسبب عامل التجاور الجغرافي، وبسبب وجود علاقات تبادل تجارية واسعة وتاريخية لبعض دول المجلس مع إيران، فإنه من المتوقع أن تخضع دول مجلس التعاون لضغوط سياسية واسعة وكبيرة تجبر هذه الدول على الالتزام بتطبيق بنود المقاطعة بغض النظر عن تأثيراتها السلبية على الاقتصاد الوطني. دول المجلس لن يكون بمقدورها رفض أو مقاومة الضغوط الغربية أو الدولية التي ستطالبها بتجميد جميع نشاطاتها التجارية مع إيران. في الوقت ذاته فإن دول المجلس لها مصلحة حيوية بمنع إيران من الاستمرار في برنامجها النووي الذي قد يقود إلى تطوير السلاح النووي، لكن المشكلة تكمن في حقيقة أن هذه الوسائل أثبتت فشلها الذريع في منع دولة كوريا الشمالية من تطوير قدراتها النووية العسكرية، رغم المقاطعة الاقتصادية والسياسية التامة التي فرضت على النظام الكوري الشمالي دوليا والتي دامت لسنوات عديدة.

والسيناريو الثالث الذي قد تواجه نتائجه دول المجلس هو احتمال قيام عمل عسكري ضد إيران يهدف إلى تدمير منشآت الدولة النووية. وبغض النظر عن مصدر العمل العسكري وعن الجهة التي ستقوم به، إن كان عملا أميركيا أو إسرائيليا أو عملا تشترك فيه مجموعة من الدول، فإن تبعات أي عمل عسكري في هذا المضمار ستكون وخيمة على دول المجلس، وعلى الأمن والاستقرار الإقليمي، وستبقى آثار اللجوء إلى الخيار العسكري ماثلة لسنوات طويلة. وسيتوجب على دول المجلس التعامل مع ردود الفعل، الآنية وطويلة المدى، العسكرية والأمنية والسياسية التي ستلجأ لها إيران والتي ستستهدف أغلب دول مجلس التعاون الخليجي.

في مواجهة ما هو قادم، وأمام الاحتمالات الثلاثة التي ستسير نحوها أزمة البرنامج النووي الإيراني، فإن دول مجلس التعاون مطالبة بتحديد مواقفها بشكل موحد. ماذا سيكون رد فعل دول المجلس إن تحقق السيناريو الأول وظهرت إيران كدولة نووية نتيجة تراخي المجتمع الدولي، أو نتيجة حدوث تغيرات جذرية في حسابات السياسة الأميركية تسمح بقبول إيران كقوة نووية إقليمية. ماذا سيكون موقف دول المجلس ودورها لو تم فرض عقوبات ومقاطعة اقتصادية صارمة ضد إيران التي تستوجب من دول المجلس أن تلعب الدور الأساسي في تطبيقها. ماذا لو تطورت الأمور إلى مواجهة عسكرية تكون أراضي ومياه وأجواء دول مجلس التعاون الخليجي مسرحا لها، سواء شاءت أم أبت!

هذه ليست تساؤلات خيالية، الأمور تتطور سريعا وهي سائرة نحو تحقيق واحد، أو أكثر، من السيناريوهات التي تم تحديدها آنفا. آمل أن يناقش صناع القرار هذه الاحتمالات ولنكن متأهبين للتعامل معها.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث