جدل بعد الجريمة

TT

من الطبيعي أن يحتدم الجدل بيننا حول أين الخطأ، ومن المسؤول، وما هو الحل في السعودية، بعد أن هزت المجتمع المؤامرة الفاشلة لاغتيال المسؤول عن محاربة الإرهاب، الأمير محمد بن نايف. فما حدث فيه مفارقات عديدة؛ أن الجرأة بلغت مداها، وأن هدوء جبهة الإرهاب انكسرت بهذه العملية المدوية، وأن الفاعل جاء في ثياب التائب.

الجدل ليس حول الجريمة بعينها، فالخطر قدَر العاملين في هذا القطاع الحيوي، في زمن الحرب مع الإرهاب، بل الجدل حول العلاج والتوجه نحو ماذا. جدل حول إن كان الأفضل التسامح مع التطرف الفكري بدعوى امتصاصه، الذي لا متفجرات فيه ولا رصاص ولا دماء ولا حتى اشتباك بالأيدي، أم أن مواجهته ضرورة حمائية في زمن استثنائي!

جدل مهم وضروري لأن الإرهاب خطر على المجتمع كله لا المسؤولين وحدهم، فجل ضحاياه من عامة الناس، ومعظم المؤامرات الكبيرة التي أحبطها الأمن كانت تستهدف كل البلد بمؤسساته المدنية والعسكرية والسياسية حتى صارت محاربته حاجة محلية أولا قبل أن تكون دولية، وستبقى محاربته قضية عالمية لن تهدأ حتى آخر انتحاري.

بداية نحن نقول إن المجتمع المسلم المحافظ من الطبيعي أن يعامل كذلك، وهذا عين الصواب، لكن كيف نصف اليوم المجتمع المسلم والمحافظ؟ لنتذكر أن هذا المجتمع لم يعرف العنف قط بأسلوب تنظيمي ومستمر إلا في السنوات العشر الماضية. إذاً ما الجديد الذي طرأ عليه؟ الذي طرأ ليس العنف فقط بل مخرجاته أيضا، حيث تم تزويج التشدد البريء بالتطرف المسيس. وأمامنا تجربة نصف قرن مسالمة فيها تشدد بلا عنف إلا من حوادث فردية. أيضا، أمامنا تجربتنا الحديثة، المصبوغة بالتطرف الفكري، أبرز ما فيها أنه كلما تم القضاء على الخلايا الإرهابية تعود فتولد من جديد، مما يبرهن مرارا أن المشكلة ليست في الأفراد الإرهابيين المطاردين على الدوام، ولا الخطر محصور في تنظيم القاعدة، بل أهم من ذلك نجدها في شوارعنا، حيث الفكر الذي يخرج التطرف، والتطرف بدوره ينتج، كمصنع آلي، الإرهابيين.

وهنا من حقنا أن نتساءل: أين الخلل إذا كان الأمن ينجح في مواجهة كل موجة إرهاب جديدة والقضاء عليها؟ مات من الإرهابيين من مات، واعتقل من تبقى، واستؤصل الممولون والدعاة المتورطون مباشرة، ويتكرر المشهد عدة مرات، ثم هاهي تظهر القائمة الأخيرة لتصدمنا جميعا أخطر من سابقاتها، فيها شباب مؤهل يحملون درجات علمية عليا مستعدون للموت، ودعاة، وممولون يضحون بأغلى ما عندهم، مالهم وأرواحهم. هل يمكن أن يدلنا أحد على كيف يمكن أن تقتل الحركة ثم تبعث بعد عام فقط؟ وكيف لها أن تستقطب نفس العينات مرة بعد أخرى؟ هذه الأسئلة المحيرة تستحق الحوار والبحث الجاد، لكن يجب ألا يقتصر الحوار على سؤال فريق واحد، همه إبعاد التهمة عن نفسه ونقلها على كتف الآخر. بكل أسف هذا الفريق المتطرف صار هو منظر محاربة الإرهاب ومن الطبيعي أن يخفي عيوبه، وإن رآها الغير سيجد لها الحجج.

سنكمل النقاش غدا

[email protected]