اشتباك الصراع الإقليمي والداخلي في العراق

TT

تفجيرات ما صار يعرف بالأربعاء الأسود وما تبعها من سجال عقيم وتبادل للاتهامات ومحاولات للتسقيط المتبادل داخل الطبقة السياسية إنما تعكس حقيقتين أساسيتين : الأولى هي أن طبيعة الصراع وتجلياته أخذت تتجاوز إلى حد كبير اللاعبين المحليين لتعبر عن حدة الصراع الإقليمي في الوقت الذي ينكمش فيه الأمريكيون تاركين فراغا يغري الآخرين لملئه، والثانية هي أن الثقافة السياسية العراقية التي تعبّر عنها الطبقة الراهنة سواء تلك المتمثلة في داخل العملية السياسية أو تلك المتربصة من خارجها، هي ثقافة غير جديرة بخوض معركة هائلة كإعادة بناء الأمة وتشكيل نظام سياسي يعبّر عن تعقيد الحالة الاجتماعية العراقية.

لقد جرت تلك التفجيرات وفق عملية منظمة رصدت لها موارد كبيرة وربما أهداف كبيرة وعلى أثرها استمرأ الكثير من السياسيين والكتاب لعبة تشخيص المتهم ـ متعجلين الدليل ـ وراحوا يقلبون كراتهم الزجاجية لتخبرهم بما يريدون أن يسمعوه، أو يتطلعون إلى مزاياهم السحرية فتقول لكل واحد منهم إنك الأفضل. الصراع يبدو اليوم أكبر بكثير من اللاعبين الصغار، فالعراق بات ساحة المواجهة الكبرى استراتيجيا وأيديلوجيا بين اللاعبين الخارجيين، الذين نفذوا عبر صراعات اللاعبين الداخليين، وما دام هذا الصراع غير محسوم ومعه هوية وطبيعة العراق وشكله وتوجهات نظامه السياسي فإن الطامحين إلى استحصال أو مقاومة أو الاحتفاظ بنفوذ ما سيواصلون مناوشاتهم فوق رؤوسنا وداخل ما تبقى من أحيائنا، وحجم هذا الصراع يعكس ضخامة ومأساوية تجلياته كما يعكس برود المتعاطين مع نتائجه الكارثية. وأمام هذه الحال لا يسعنا القول إلا أن القادم قد يكون أكثر خطورة وكارثية في الوقت الذي يواصل فيه البعض اجترار ذات الخطاب السياسي والإعلامي الذي بلغ من الصفاقة حد الرقص على مآسي الضحايا بعيون التماسيح وابتسامات الشياطين. وفي الوقت الذي يحتشد فيه الجهد الاستخباراتي الخارجي في الساحة العراقية ما زال السياسيون يمارسون استجابة تعبر إما عن انخراطهم في هذه اللعبة وقبولهم للثمن المدفوع، وإما عن عدم جدارة مستحكمة للتصدي لمثل هذه المسؤولية. إن تحديا بهذا الحجم يتطلب نوعا من المخارج الخلاقة التي لا تكتفي فقط بالمراهنة على صندوق الانتخابات، إذ إن هذا الصندوق هو لاعب غريب وغير مرغوب فيه إطلاقا في هذا الجزء من العالم، وأيا كانت النتائج التي سيفرزها فإن الصراع لن يتوقف ما دام غير محسوم، فالخائفون من عودة الماضي سيواصلون اعتماد ذات الخطاب عن «الخطر البعثي» الذي بفعل تكرار الحديث عنه صار خطرا قائما، وعبره تم تحويل الكثير من الأصدقاء المحتملين أو القابلين للاستمالة أو التحييد إلى خصوم وأعداء. أما المتشبثين بذلك الماضي فإنهم سيواصلون المراهنة على ضعف النظام الحالي لابتزاز المزيد من التنازلات واللعب بالقرب من حافة الهاوية كشركاء عندما يحلو لهم وكخصوم عندما يناسبهم. إقليميا، إيران لن تكون مستعدة للتسليم بعراق معادٍ لها وهي تمتلك أدوات كافية لجعل هذا الاحتمال هائل التكلفة، والدول العربية لن تقبل أن يكون العراق حليفا لإيران وستواصل مسعى مقاومة الواقع الجديد أو تأزيمه عبر استقبال الساخطين ورعايتهم. إخوتنا في كردستان وهم يبدون لاعبا داخليا وخارجيا في الوقت عينه، ما زالوا غير قانعين بعراق مستقر قد يكون في استقراره تهديد لاستقلاليتهم أو مشروعهم القومي (الحائر بين شراكة مفروضة وطموح لم يكن تحقيقه وشيكا أكثر من اليوم)، أو من وجهة نظر تتطلع إلى الشق المعتدل عندهم فترى أنهم سيظلون متخوفين من المركز إذا ما قوي خشية من أن تكون حقوقهم أولى ضحاياه، لذا فمع سعيهم لتحجيمه فهم لن يذهبوا للمساهمة في تقويض سقف إذا ما سقط لن يكون أحد بمنجى منه، فكيف بالشركاء الأساسيين به؟

لذلك، يبدو أن احتمال تواصل الصراع بشكله الحالي يبدو جليا مع مراهنة معلنة أو كامنة على ما ستفرزه الانتخابات المقبلة أو على ما بعدها إما بإنتاج تغيير محسوس للخارطة أو بإنتاج انغلاق يجمد الحراك ويمهد لمزيد من «الأقلمة» المعلنة، وخطورة مثل هذه الاحتمالات تعكسها حقيقة أنه حتى إذا ما رضي العراقيون جميعا ـ وهذا يبدو احتمالا غير وارد ـ بنتائج تلك الانتخابات، فإن المتبارين الإقليميين لن تكبحهم تلك النتائج عن مواصلة صراع قد ينتج تفكيكا محتملا للبلد إذا ما أصبحت القوة ـ وهي لغة المنطقة شبه الوحيدة ـ العنصر الحاسم في تقدير الأحجام. لذلك قد تلوح ضرورة وإمكانية دعوة الولايات المتحدة باعتبارها القوى المنتجة والراعية للوضع العراقي وصاحبة النفوذ الأكثر قدرة على الردع إلى: إما حراك ثنائي وإما متعدد وإما عبر مؤتمر إقليمي لا يستهدف مساومة القوى الإقليمية بل إلى طرح خيار «تحييد العراق» عبر التوقف عن التدخل فيه مقابل تطمينات متبادلة وخارطة طريق لتحقيق انسجام ومصالحة لا تعني بالضرورة ولا يمكن لها تجاوز صندوق الانتخابات، بل يتم عبر منح مكافآت وتسويات موازية له. مع تنامي رسوخ الوضع العراقي طيلة سنين ست، وعدم قدرة استهدافات الموت اليومية على كلفها الإنسانية الفادحة أن تقوضه، ومع تغيير منهج الإدارة الأمريكية باتجاه الانكفاء أو على الأقل بإبقاء منطقتنا هي الاستثناء في العالم بجعل التفضيل فيها للاستقرار على الدمقرطة، فإن الوضع الإقليمي فيها ملتبس ومتعدد الملفات ومتداخل، لذا فان الصراع الإقليمي، إذا ما تواصل، لن يؤدي إلا إلى تعقيد المشهد العراقي المعقد أصلا، وهو مشهد لا تعكس سوأه مساجلات السياسيين فقط، بل والقتل المنفلت بأعصاب باردة للأبرياء، وإن لم يتسنَّ إنقاذ العراق فلننقذ أرواح أبنائه من موت لم يختر غالبيتُهم مواجهتَه.