العصفور المغرد

TT

الله لم يخلق أي شيء عبثا، وحتى الذبابة، وهي الذبابة، لا شك أن هناك حكمة من خلقها ـ والله أعلم ـ ففي أستراليا مثلا ازدهرت زراعة القصب التي دعمت مصانع السكر هناك، غير أن الخنافس بكثرتها أخذت تهدد مزارعهم، وتفتقت قريحتهم عن استيراد مائة ضفدع قصب من هاواي على سبيل التجربة للقضاء على الخنافس، غير أن تلك الضفادع «السامة» تكاثرت بشدة، حيث إن الضفدعة الواحدة منها تضع ما لا يقل عن عشرين ألف بيضة دفعة واحدة، وأحيانا تبيض مرتين في السنة.

وسمّ تلك الضفدعة من القدرة بمكان أن يقتل كلبا أو إنسانا خلال ربع ساعة إذا لم يتدارك نفسه، وذهب ضحيته حيوانات وأناس كثيرون، إلى درجة أن حكومة أستراليا أعلنت حالة الطوارئ في هذا المجال، وكثرت النشرات والملصقات التي تحذر من خطورة الضفادع، وشجعت المختبرات والعلماء على إيجاد حل لتلك الكارثة، وأدخلوا أنواعا من الطفيليات والأوبئة للقضاء على تلك الضفادع، غير أن كل محاولاتهم باءت بالفشل، وتدهورت صناعة السكر، وغدا أصحاب المصانع يحنون لأيام الخنافس، وانطبق عليهم المثل الخليجي القائل: «ارض بقريدك لا يجيك أقرد منه».

وأستراليا بالذات لها تجارب عديدة في هذا المجال، فقد استوردت بعض الجمال من الهند في القرن التاسع عشر لتساعدهم في مد الخطوط الحديدية، وبعد أن انتهت صلاحيتها بعد أن بدأت «التكنولوجيا» الحديثة تكفيهم مؤنة تلك الحيوانات، عندها أطلقوا سراحها، وكانت في ذلك الوقت تقدر بالمئات، فانطلقت تلك الجمال على حريتها في الصحارى الأسترالية، وتحولت إلى وحشية، وتكاثرت بالآلاف، وأخذت تقطع السياجات وتعيث بالمزارع، وأخذ القوم يطاردونها ويقتلونها بالبنادق من دون جدوى.

ومأساتهم كانت كذلك مع الأرانب، حيث إن أستراليا قبل استيطانها لم يكن فيها ولا أرنب واحد، غير أن بعض المستوطنين جلبوا معهم بعض الأرانب التي استطاع بعضها أن يحفر بالأرض ثم يتكاثر ويتكاثر إلى الحد الذي هدد المحاصيل الزراعية، حيث إن أعدادها وصلت إلى عشرات ولا أقول مئات الملايين.

وحيث إن العبقرية التجارية للعرب لا تضاهيها عبقرية، فقد ذهب أحد الخليجيين إلى أستراليا وأصبح شبه مستوطن هناك ولا هم له غير صيد الأرانب وذبحها وسلخها وتجميدها وتصديرها لدول العالم ـ خصوصا للدول العربية التي يحب أهلها أن يأكلوها مطبوخة مع الملوخية مع «التَّأليَّه» ـ ولا أدري إلى الآن ما هي «التَّأليَّه»، ولكنني سمعتهم يقولونها.

أما العبقرية التي استطاعت أن تتفوق على العبقرية العربية، فهي عبقرية «ماو تسي تونغ» إبان «ثورته الثقافية» عندما أراد أن تكتفي الصين من زراعة الحبوب، ووجد أن العصافير تأكل مقادير لا يستهان بها من الحبوب، فأعلن شن حرب لا هوادة بها لمكافحة العصافير، فرصد الجوائز والحوافز لكل من يقتل أكبر قدر من العصافير، وفعلا ما هي إلا خمسة أعوام حتى كادت العصافير تنقرض في الصين، غير أنه ما إن انقضت خمسة أعوام أخرى حتى نزل إنتاج الصين من الحبوب إلى أقل من النصف، حيث إن الحشرات التي كانت تأكلها العصافير قد تكاثرت إلى درجة الوباء وعاثت وأكلت محاصيل الحبوب.

اللهم أرجوك لا أريد أن أكون ذبابة ولا خنفسا ولا ضفدعا ولا بعيرا ولا أرنبا، وإذا كان ولا بد؛ فاللهم اجعلني عصفورا مغردا لا يأكل المحاصيل، وإنما يقتات فقط على شرايين القلوب الوردية منها على وجه الخصوص.