وأنقذني النوم من النظر إليه!

TT

.. ثم جلست. وتأملت وأطلت التفكير. وقررت أن أكتب وأن أقول: بالضبط ما الذي فهمت، وما الذي رأيت، وماذا أنجزت في حياتي، وهل أنا راض عن ذلك؟ ثم ما نصيحتي لمن يريد أن يفهم نفسه والدنيا..

ونظرت إلى القلم أمامي. واخترت غيره. ثم اخترت ثالثا. ولاحظت أن هذا انسيابي، وأن هذا غليظ، وأن هذا خشن يقاوم خشونة الورق. إذن لا بد أن أغير الورق. فهذا ورق مسامي. وهذا ناعم. وهذا شديد البياض. وهذا أميل إلى الصفرة وهو مريح للعين.. ونظرت إلى المصباح فوجدته قويا، ولا بد أنه يرهق العين. وكتبت في ورقة: استدعاء الكهربائي لتغيير هذه المصابيح واختيار أنواع أخرى لا تؤذي العين..

واسترحت إلى هذا الذي كتبت. واعتدلت في جلستي فلاحظت أن المقعد جاف. وأنني عندما أكتب انحني كثيرا إلى الأمام مع ضغط على يدي اليسرى وذراعي كله، فتكون جلستي موجعة للعمود الفقري ـ وهذا هو مرض المثقفين والذين يجلسون طويلا إلى مكاتبهم. وكتبت في ورقة: تغيير المقعد والإتيان بواحد مريح. وتذكرت أستاذنا العقاد، الذي كان يجلس إلى مكتب صغير. فكان يجلس إلى جواره لأنه لا يستطيع أن يدخل ساقه تحت المكتب. فكانت النتيجة آلاما في ظهره وفى بطنه ومضاعفات أخرى حتى الموت. وكان أستاذنا طه حسين، يجلس على مقعد صغير ويملي. وإذا أملى فإنه يتحرك إلى الأمام وإلى الخلف. ولم يوجعه ظهره. وتذكرت الأدباء الذين يكتبون واقفين مثل الشاعر الألماني جيته، والكاتب الأمريكي همنجواي وغيرهما..

وفجأة وجدتني أنظر إلى صورة العالم البريطاني استيفن هوكنج، وهو معجزة الخلق: مشلول أخرس لا يظهر منه إلا رأس كبير وجبهة جميلة وعينان نافذتان. وهذا الرأس استقر على كوم من اللحم، تظهر منه ساقان هزيلتان وذراعان، وإذا نطق فعن طريق جهاز إلكتروني يترجم أصواته وما يقوله هو البيان. وإن من البيان لسحرا ـ اقرأ كتابه «موجز تاريخ الزمن».. أنا قرأته بالإنجليزية وقرأته بالترجمة الفرنسية والإيطالية. لا أروع ولا أجمل.. وخجلت من نفسي، كيف لي ساقان وذراعان وأكتب وأتحرك واقترب وابتعد.. وأنا حر. وحريتي هي الحركة إلى كل اتجاه. في أي وقت. كيف أملك كل ذلك وأجلس وأكتب. فقلت لنفسي: لقد كتبت 170 كتابا.. فليكن ما دمت قادرا. أجلس، وأحتشد، أكتب. وأطلت الجلوس، وأنقذني النوم من عيني استيفن هوكنج!