جدل بعد الجريمة

TT

مع قناعتي بخطأ الاسترشاد بنصح المتطرفين في محاربة الإرهاب والاستعانة بهم، إلا أنني أعتقد أنه من الخطأ أيضا الاستدلال بالجريمة التي استهدفت مساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف على أنها بينة على فشل برنامج المناصحة، البرنامج الذي يعمل فيها متعمقون في الفكر ويعيدون تنظيف العقول المغسولة من قبل التنظيمات الإرهابية. فالمناصحة، حقا، مشروع حيوي لا علاقة له بجدلنا، وما أفرزه نجح ويستحق الإشادة به، حتى وإن أصابته انتكاسات فهذه حالات فردية لا يقاس عليها.

العلة في إدخال المجتمع، بملايين الناس المعتدلة، في درس المناصحة، وليست في مناصحة بضع مئات متطرفين. العلة أيضا في الاعتقاد الخاطئ بأن المزيد من التشدد، والمزيد من المتشددين، يحمي من الإرهاب، فالإرهاب نتيجة للتطرف وليس نتيجة للاعتدال.

في خضم الصراع الإقليمي تسلل في التسعينيات من وراء الحدود، بعد حرب تحرير الكويت، فكر التطرف، ونجح بشكل باهر في تسييس بعض المنابر الدينية، إلا أن أتباعه دحروا أمنيا، مما دفعهم إلى تغيير وظيفتهم، فتحولوا إلى فلسفة الحدث وكتابة وصفات علاجية من الإرهاب، مع الاستمرار في تلقيم الناس الكره، وتبرير العنف، ولوم الضحايا على أن اعتدالهم سبب في استهدافهم! وطالما أن المتطرفين يفتون منظرين في أسباب الإرهاب صار سهلا عليهم أن يقدموا أنفسهم صمام الأمان من الإرهاب، حصان طروادة فكري.

انتقلوا إلى الضفة الأخرى بعد أن فشلوا في تغيير الواقع السعودي كما يريدون، وصاروا منظرين في محاربة الإرهاب، وراحوا يروجون لمقولات مثل أن الإرهاب ردة عكسية للتفسخ وأن الحل في التطرف، ويخترعون كل موسم مصطلحات جديدة، حداثة ليبرالية علمنة وأمركة وتغريبية، لإيهام الناس بأنهم كمتطرفين ليسوا الخصم، وحتى يتم تضليل المجتمع عن الحقيقة الساطعة: أن التطرف هو المشكلة. كلنا نعرف أن مجتمعنا عرف المتشددين، واحترم حقهم، لكن المتشددين صنف مختلف عن المتطرفين الفكريين الذين هم ظاهرة جديدة فتحوا عيادة قدموا أنفسهم فيها كأطباء متخصصين في معالجة الإرهاب!

لم يكتفوا باختراع عدو وهمي، بل صاروا يستنبطون حججا للسماح بالتطرف، مدعين أن للتطرف الديني شعبية في المجتمع. وهذا الحديث، عدا عن أنه غير علمي، أيضا لا علاقة له بالمنطق عند محاربة الظواهر السلبية. فإذابة القبلية والمناطقية في داخل الدولة لم تكن في بداياتها مشروعا شعبيا، لكنها كانت ضرورة. ولو أن الدولة أنصتت لمن يخوفها آنذاك من فكرة لا شعبية الدولة المركزية لصارت السعودية مثل أفغانستان اليوم. ولا نحتاج أن نتذاكر عن نصف قرن مضى، لننظر خلفنا عشرين سنة مضت، حيث كان المجتمع أكثر اعتدالا من اليوم، ومع هذا كان الإرهاب نادرا. وسبب اختلاط الحقائق بالخرافات ظهور أساتذة التطرف، الذين تحولوا من معاداة الدولة والتحريض عليها إلى التنظير لها، اختلطت المفاهيم وصار الضحية الملاحق هو المستهدف!

ومما أفشل فحص الأسباب، وأطال الأزمة، أن التوازن بات مفقودا في النقاش، فالمتطرفون لهم الحق في التنظير والتكفير وفرض الفكر الذين يريدونه، في حين لا يجوز الرد عليهم وتبيان أخطائهم أو مناقشتهم.

الخلاصة سيستمر التطرف، وبعونه سيستمر الإرهاب طالما أن التفتيش يتم في المواقع الخاطئة.

[email protected]