ليس هناك شيء اسمه «القاعدة»

TT

«القاعدة» هي أكبر خدعة انطلت على العالم اليوم، فليس هناك شيء اسمه «القاعدة»  بمعنى التنظيم القادر على زعزعة أمن دول كبرى وصغرى أو استهداف قيادات أمنية وسياسية. «القاعدة» ما هي إلا غطاء لحرب بالوكالة في منطقتنا، فلا يوجد في منطقة الشرق الأوسط سوى لاعب واحد وهو الدولة تليها القبيلة والطائفة، ما عدا ذلك من عصبيات فهي ليست من طبيعة المنطقة أو من تاريخها. أقول هذا وأعرف أن طرحي ضد ما هو سائد من اعتقاد في هذا المجال، ولكن لا بأس من طرح ما هو مخالف للسائد لمحاولة إعادة التفكير فيما هو مركون إليه.

أطرح هذه الفرضية للنقاش بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية، فتقييد القضايا ضد «القاعدة» هو تقييد القضية ضد مجهول، فلـ «القاعدة» كفيل كما لـ «حماس» كفيل ولـ «حزب الله» كفيل، وكما للحوثيين كفيل. وليست مؤسسة سحاب التي تصور لنا خطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، والتي تنتج أفلاما في باكستان كما يقال، هي من يروج ويبرر خطاب «القاعدة»، وإنما من يبرر خطاب «القاعدة» هو فضائيات وراءها دول، فضائيات تتحدث عن الإرهاب على أنه «ما يسمى بالإرهاب». تبرير الأعمال الإرهابية ترصد له ميزانيات دول، والترويج لتكفير القيادات والأفراد هو أيضا من ميزانيات دول. إننا أمام حروب دول بالوكالة ولسنا أمام «القاعدة» التي يحب البعض أن يصورها كشركة عملاقة عابرة للحدود. فالحرب الدائرة بين الحوثيين والجيش اليمني ليست حرب جماعات محلية ضد الدولة، وهناك تصريحات يمنية رسمية بهذا الشأن أشارت بأصابع الاتهام يوما ما إلى ليبيا وتشير اليوم إلى إيران. وليس بغريب أن نتصور بأن محاولة زعزعة أمن اليمن اليوم المقصود به هو المملكة العربية السعودية في النهاية، أي أننا أمام نموذج الأمس في تدخل جمال عبد الناصر في اليمن ولكن بعباءة إسلامية شيعية، والهدف واحد. مع الانتباه إلى أن أدوات الكفيل الشيعي داخل المملكة اليوم أكبر بكثير مما كان متاحا لعبد الناصر.

لا شك أن هناك مبررات محلية في محافظة صعدة مما يجعل تمرد الحوثيين يبدو ذا جذور محلية، هذا عنصر مساعد في تفعيل الحماس المحلي ضد الدولة، ولكن هذا العنصر بمفرده لا يحرك تمردا ويجعله قابلا للاستمرار بهذه القوة وهذا التحدي. يمكننا قول الشيء ذاته فيما يخص شيعة جنوب لبنان، فهم بشر يعانون من الإهمال والفقر الناتج عن تجاهل الدولة المركزية لاحتياجاتهم، وهذا أمر يبرر استقطاب «حزب الله» لهؤلاء الفقراء كمدافع عنهم، كما برر فقر الصعايدة المدقع في جنوب مصر ظهور الجماعة الإسلامية في الصعيد والتي تحدثت عنها في بحث أكاديمي خاص في هذا السياق. لكن تبقى هذه مجرد دوافع محرضة، إلا أن القدرات التي أظهرها الحوثيون و«حزب الله» و«حماس» والجماعة الإسلامية وكذلك «القاعدة» لا تعكس واقع الحال، إذ لا يمكن أن تكون قدرات لحركات محلية محدودة التدريب والتمويل، فهي قدرات كبيرة تحتاج إلى دعم دولة بأجهزة استخبارات وأموال وعتاد. قد يبدو هذا التنظير مخالفا لما هو متعارف عليه، ولكن ممارسات الدول منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، توحي بأنها تعمل وفق هذا المنطق، فالولايات المتحدة لم تهاجم أسامة بن لادن و«القاعدة» وإنما هاجمت نظام طالبان ونظام صدام حسين بغض النظر عن أيهما كان المسؤول، أي أن التوجه الأولي للرد الأميركي على ما حدث كان باستهداف دول لا حركات من نوعية «القاعدة» أو «حماس» أو «حزب الله» أو أي حركة أخرى. والعراقيون بعد تفجيرات الأربعاء الدامي الأخيرة، رغم اتهامهم «القاعدة» إلا أنهم هددوا بقطع علاقاتهم الدبلوماسية مع دول بعينها وتدويل الخلاف معها. ونتنياهو هدد الدولة اللبنانية ولم يهدد «حزب الله» إذا ما دخل الحزب في الحكومة اللبنانية. أي أن هناك توجها جديدا بدأ يتنبه إلى مسألة الكفيل أو العنوان الحقيقي للحركات.

في محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف، لن يكون الحديث عن مواحهة بين «بن نايف» و«بن لادن»، فمواجهة مثل هذه محسومة سلفا لصالح الأمير، وتاريخ المملكة السياسي يؤكد ما نذهب إليه. فحادثة الاعتداء أتت نتيجة نجاح أجهزة الأمن السعودية في الاقتراب من عنوان الإرهاب المحلي الذي يقود إلى عنوان الكفيل الخارجي. ولقد كان القبض على مجموعة «الأربعة والأربعون» بداية الخيط، لذا كان لا بد من ردة فعل لصاحب الحرب بالوكالة بإصدار توجيهات للقيام بعملية تبعد الشبهة عن الكفيل الأصلي. محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية ليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض، ففي الحروب بالوكالة غالبا ما تكون مثل هذه العمليات مقدمة لعملية أضخم قادمة، وكان الحال على هذا النحو قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فالعملية الناجحة التي اغتالت أحمد شاه مسعود كانت هي المقدمة التي تلتها تفجيرات نيويورك.

النقطة الأساسية هنا هي أن الإرهاب صنيعة دول وأجهزة استخبارات لا صنيعة حركات ومراهقين. المراهقون هم أدوات ووقود لتك الحروب بالوكالة، ولكن الأسلحة والتمويل والتخطيط والتدبير فهو شغل محترفين. ولو كانت «القاعدة» مجرد منظمة جهادية تحارب الدول المعادية لمصالح المسلمين لقامت بعملية ضد العدو المعلن لكل الحركات الجهادية وهو إسرائيل، أو لقامت بعملية في الدولة الجارة التي يوجد فيها الأمريكان بقواعدهم العسكرية، أو في إيران المختلفة مذهبيا، وما هذا بتحريض على القيام بعمليات في تلك الدول وإنما نريد أن نفهم، لماذا ليس في إسرائيل أو في إيران..؟ هناك تفسيرات مختلفة لعدم قيام «القاعدة» بمهاجمة إسرائيل، فإما لأنها (أي القاعدة) تعرف أن لدى إسرائيل من الأجهزة ما يكشف العنوان الرئيسي للكفيل، أو أن هناك تفسيرات أخرى تخص استخدام إسرائيل لذلك الغطاء الوهمي المعروف بـ«القاعدة» في عالم تسود فيه الحروب بالوكالة وتقيد فيه القضايا ضد مجهول.

في حواراتي المختلفة مع الباحثين الغربيين الذين يؤمنون بالحركات الإسلامية كظاهرة عابرة الحدود، كنت أؤكد لهم بأنهم جاهلون بطبيعة ما يحدث في منطقتنا. ففي منطقة الشرق الأوسط، ورغم المسيرة الطويلة للحركات الإسلامية منذ ظهور حركة الإخوان المسلمين عام 1928، إلا أنه لا يوجد سوى لاعب وحيد ورئيسي هو الدولة، وإن كان هناك من لاعب ثان فهو القبيلة أو العصبية العائلية في منطقة الخليج والعراق، ما عدا ذلك فكله «زعبرة». الإسلامويون أداة من أدوات الدول، سواء كانت حركاتهم شيعية أو سنية. فالحركات الإسلامية التي لا دولة كفيلة لها لا تدوم كثيرا، وهناك الكثير من الحركات الإسلامية التي اختفت من الساحة، والمتابعون لتاريخ هذه الحركات في المجتمعات الإسلامية المعاصرة يدركون هذه الحقيقة. الحركات بالصورة المقبولة اليوم في الشرق والغرب توصف على أنها عابرة للحدود ولاعب إضافي في تشكيل العلاقات الدولية كالشركات العابرة للقارات وغير ذلك من الطروحات التي قدمها جوزيف ناي وروبرت كوهين في بدايات حياتهما العلمية، ولكن مفهوم السيادة والكفالة يبقى فوق كل هذه الطروحات، وهو كلام مردود عليه أكاديميا بوجهتي النظر الـ«مع» والـ«ضد».

ولكن هذا لا ينفي وجود خصوصية قوة الدولة وقدراتها وحتى شراستها في منطقتنا، لذا يجب ألا نتوهم بأن «القاعدة» وراء كل شيء في منطقة تشتعل فيها حروب صغيرة وكبيرة بالوكالة، وليس مستبعدا أبدا أن تكون محاولة اغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية جزءا من هذه الحروب بالوكالة، ليس بشكلها المباشر ولكن الضربة التي وجهها الأمير لمجموعة «الأربعة والأربعين» المرتبطة بالإرهاب في السعودية قد يراها الكفيل الأصلي أنها موجهة إليه ـ لذا خطط لاغتيال الأمير. من هنا أقول إن التركيز على «القاعدة» أو غيرها من الحركات هو تضليل ما بعده تضليل، فخلية «حزب الله» في مصر ليست من صنع «القاعدة»، وكذلك لا دخل لـ «القاعدة» بما يحدث في اليمن، وبكل تأكيد ليست هي المسؤولة عن كل ما يحدث من إرهاب في العراق. الحديث اليوم عن «القاعدة» وقدراتها اللامحدودة هو أكبر وهم تعاني منه أدبيات الكتابة عن الإرهاب، وأكبر خدعة انطلت على العالم.