تعبان بن مرضان الحسداني

TT

هناك في هذا الكون كواكب ومجموعات شمسية لم يرها أحد، غير أن العلماء يقطعون بوجودها من خلال حساباتهم الفلكية، أنا أيضا من خلال حساباتي الخيالية المستندة لصلب الواقع، اكتشفت وجود بشر يظن الناس ألا وجود لهم، ومن اكتشافاتي، قبيلة بني كئيب التي لم يتكلم عنها المؤرخون ربما خوفا منها، أو استصغارا لشأنها، وربما لبراعة أفرادها في الادعاء بأنهم ينتمون لقبائل أخرى حسنة السمعة. الجد الأكبر لهذه القبيلة هو تعبان ابن مرضان الحسداني، شيخ قبيلة بني كئيب، وحتى الآن كل أفراد هذه القبيلة يحملون ذات الاسم، غير أنهم جميعا حريصون على إخفائه.

أنا من عشاق المؤرخ الأمريكي ول ديورانت، وأعترف بأن كتابه «قصة الحضارة» كان له التأثير الأكبر على تفكيري وفهمي للتاريخ والبشر والحياة. ولقد تكلم ديورانت عن حضارة العرب المسلمين في العصور الوسطى، وفي الأندلس، ومنها أنه كان هناك مستشفيات في القاهرة بها أقسام للمرضى النفسيين ملحق بها حديقة مزودة بفرقة موسيقية لإراحة أعصاب المرضى، وكان المريض بعد أن يشفى تمنحه المستشفى مبلغا من المال يتعيش منه في فترة النقاهة إلى أن يسترد عافيته ويعود إلى عمله، أقسم لك أن هذا هو ما قاله فعلا هذا المؤرخ الكبير الذي لا يكتب حرفا واحدا إلا إذا كان موثقا وموثوقا، أي أنني حتى الآن أتحدث إليك من أرض الواقع، وهو ما يعطيني الحق في أن أنتقل بك إلى حسابات الخيال المستندة بطبيعة الحال إلى الواقع. لقد تعبت من البحث في أرشيف الدنيا إلى أن استطعت تتبع رحلة تعبان ابن مرضان الحسداني (شخصية في مسرحية «جوهرة العالم»)، وهو يتنقل بين المستشفيات في بغداد ودمشق والقاهرة التي عجز نطس الأطباء فيها عن تشخيص حالته، وأخيرا اتخذوا قرارا بإرساله إلى الطبيب العظيم والفيلسوف الكبير، ابن رشد، الذي يعيش في قرطبة للكشف عليه وتشخيص حالته الفريدة.

كان مرضه غريبا بالفعل، فجأة يصاب بهبوط حاد في الدورة الدموية، قلبه يكاد يتوقف، كليتاه تقريبا لا تعملان، رئتاه توقفتا تقريبا، هو على وشك أن يموت، ينقل إلى المستشفى على عجل، وهناك يضعونه في عنبر المنتظرين، أي هؤلاء الذين لن تطلع عليهم شمس الصباح، وفى الصباح، وبغير دواء أو علاج، يشفى الرجل تماما، يعود قلبه ينبض بقوة، رئتاه تعملان بكفاءة، كل ما فيه ينبض بالحياة، هي معجزة.. ولكن ما سر هذه المعجزة؟ وما هو السبب فيما يحدث له، وما هو السر في شفائه السريع؟

بذكائه الحاد أدرك ابن رشد أن السر يكمن في أسلوب حياة الرجل فأخضعه للرقابة، ليكتشف أن الموسيقى تصيبه بهذه الحالة القاتلة، الموسيقى وأغاني الحب، والرقة والتهذيب واحترام الحياة والعمل على صيانتها، بالإضافة للورود ورائحتها الجميلة، كل ذلك يكاد يوصله إلى الموت. ما هو السر في شفائه السريع إذن؟

رائحة الموت من حوله في عنبر المنتظرين ترد عليه حياته، عندما يبات ليلته بين المحتضرين مستمتعا بآهاتهم، تبدأ عجلة الحياة في الدوران بداخله، آهات الناس وأوجاعهم وضياعهم يشعره بالنشوة ويقوى جهاز المناعة بداخله، هذا هو علاجه الوحيد، أن تموت الناس من حوله، أن تفقد استمتاعها بالحياة.

ويترك تعبان بن مرضان الحسداني من قبيلة بني كئيب قرطبة ليواصل مشوار حياته ناشرا الكآبة والاكتئاب، مرسخا الحقد والكراهية بين الناس في بقية بلاد الدنيا.

قبل أن يغادر قرطبة حدث لقاء صدفة بينه وبين عباس بن فرناس، عباس شخص حالم يحلم بالطيران، يريد أن يرى الدنيا كما يراها الصقر، أن يرى الجبال والغابات والبحار والأنهار، لذلك يجرى تجاربه لاختراع الطائرة، ويبدى تعبان سعادته بهذا الاختراع ليس لأنه سيمكنه من الطيران ورؤية الدنيا بعين الصقر، بل لأنه سيتيح له فرصة أن يملأ الطائرة بالحجارة ليلقيها على الناس من الجو فتسيل دماؤهم أنهارا بغير أن يتمكنوا من الإمساك به. أن تتألم الناس هذا هو ما يعيش تعبان من أجله. لا تندهش عندما أقول لك إنني ناقشته في عدد من البرامج الفضائية التليفزيونية، وبالرغم من تنكره في هيئة المصلحين المفكرين فإني كشفته على الفور.

إنها قبيلة من الرحل الذين ينتقلون من مكان إلى مكان بحثا عن بيئة مناسبة لنشر الفزع والاكتئاب، أخيرا عرفت أنهم وصلوا إلى غزة، يمشون على الشاطئ ويطلبون من الرجال ـ نعم من الرجال ـ الذين يرتدون «المايوه» أن يرتدوا قميصا لعدم إثارة الغرائز، غرائز مين ما تعرفش. ويمرون على محلات الملابس ويكسرون النماذج الخشبية التي تعرض فوقها الملابس، لأنها أيضا تثير الغرائز، هم تابعون لوزارة الأوقاف، من الواضح أن لديهم فهما غريبا لاسم الوزارة ووظيفتها، هي وزارة لوقف حال البشر وإغراقهم في بحور اليأس والتعاسة. الأخطر من ذلك كله أن يقول المسؤول عن نشاطهم إنهم (ينصحون الناس فقط) لا يا شيخ.. فجأة يظهر لك عدد من الأشخاص الملتحين ويقولون لك اعمل كذا وما تعملش كذا.. حا تناقشهم؟ حا ينزلوا فيك ضرب طبعا.