.. والإنجليز أيضا

TT

تعرضت في مقالتي السالفة لموضوع إنسانية أو لا إنسانية الولايات المتحدة وأود أن انتقل الآن للقطب الآخر من لا إنسانية النظام الغربي، بريطانيا. يعتز الإنجليز بحكاية لا ينقطعون عن ترديدها لأولادهم في البيت والمدرسة. يقولون إنه عندما بعثت الكنيسة بمبشّر لنشر المسيحية في إنجلترا وعاد المبشر ليروي لسيده الأسقف ما شاهده فيها، وصف له مكارم القوم وحسن أخلاقهم. سأله الأسقف وماذا يسمون هؤلاء الناس؟ قال يسمونهم الإنجليز. قال لا. بل يجب تسميتهم بالإينجلز (ملائكة). يعتز الإنجليز بإنسانيتهم وعطفهم على الآخرين. الطريف أنهم عندما يذكرون ذلك يشيرون دائما لحسن معاملتهم للكلاب والقطط. لا أدري إذا كانوا بذلك يقصدون أن الشعوب الأخرى مجرد حيوانات أخرى!

الحقيقة أنا أشاركهم في الإعجاب بحسن أخلاقهم، وإلا ما عشت بينهم. ولكن لهم أوزارهم أيضا ككل الأمم الأخرى. تاريخهم مليء بالوصمات، ومنها تعاملهم مع العراقيين حاليا. المفروض قانونا وأخلاقيا أن الدولة الغازية تتحمل مسؤولية رعاية سكان الدولة المحتلة. كانت الخدمات الطبية من بين سائر الخدمات التي انهارت في العراق بنتيجة الغزو والاحتلال. هذه قضية إنسانية خطيرة. المفروض أن تنشئ سلطة الاحتلال خدمات صحية بديلة، ولا سيما بالنسبة للحالات الصعبة. لِم لَم يقيموا عيادة ولو في المنطقة الخضراء لمعالجة مثل هذه الحالات؟

لم يفعلوا. أصبح البديل السعي لهذه الخدمات الخطيرة في الخارج. اعتاد المتمكنون العراقيون، ككل العرب، على السفر إلى بريطانيا لهذا الغرض، على الأقل بسبب اللغة. بيد أن الإنجليز وضعوا حاجزا أمام ذلك. على المريض الذي يعاني من آلام وخطر الموت أن يحصل على الفيزا ليس من بغداد وإنما من عمان. ينتظر عدة أيام لمواجهة المسؤول. وحالما يرونه يتناول حبة أسبرين يرفضون إعطاءه الفيزا خوفا من أن يصبح عالة على نظام الصحة البريطاني. يعود لبغداد خائبا يائسا من حياته وقد خسر جل توفيراته.

أين الإنسانية الإنجليزية في ذلك؟ أفلا يمكن وضع نظام يضمن عدم شموله بالتأمين الصحي البريطاني، أو وقوعه لاجئا هناك؟ مثلا ربطه بكفالة مواطن بريطاني متمكن يضمن عودته ودفع كامل فواتيره وإيداع تأمينات كافية في المستشفى قبل معالجته وقبل سفره؟ قد يستطيع اثنان أو ثلاثة تجاوز القيود والحصول على خدمات مجانية، ولكن ما ذلك بالنسبة لدولة غنية بنت ثرواتها وأمجادها من ثروات العراق وشعوب العالم الثالث؟

وحتى من الناحية الاقتصادية، قد تكسب بريطانيا من تدفق أغنياء المرضى العراقيين ما يتجاوز خسارتها من الإنفاق على فقرائهم.

تعج بريطانيا الآن بألوف اللاجئين الشرعيين واللاشرعيين الذين يعيثون فسادا في البلاد ويكلفون الخزينة ملايين الجنيهات سنويا. ما تبعات مريض عراقي مبتلى بالسرطان مقارنة بكل ذلك؟ بريطانيا وأمريكا حرمتا المريض العراقي من المعالجة في العراق بغزوهما واحتلالهما بلاده وتمنعانه من المعالجة بفلوسه في بلدهما. وتصفان نفسيهما بالملائكة!