سورية والعراق: ازدواجية الوصل والهجر

TT

الهوى السوري بالعراق قديم. زحف الضباط العراقيون والسوريون معا، عبر الأردن (1916) لتحرير المشرق العربي من تركيا العثمانية. وعملوا معا في مملكة فيصل الهاشمية في سورية (1918 ـ 1920). عندما نصَّبه الإنجليز ملكا على العراق، بعد استيلاء فرنسا على مملكته السورية، لحق به إلى بغداد كثير من الضباط والساسة والمثقفين السوريين.

ظل الهوى السوري بالعراق متأججا. التحق سوريون بثورة الكيلاني العراقية (1941). عندما اشتدت وطأة دكتاتورية الشيشكلي على السوريين (1951 ـ 1954)، فكر زعماء البعث (الحوراني. عفلق. البيطار) باللجوء إلى عراق عبد الإله ونوري السعيد، فيما كان العراق يقدم مساعدات مادية لزعماء اليمين السوري ضد الدكتاتورية.

هوى السوريين المفاجئ بعبد الناصر بَدَّدَ الهوى الشعبي بالعراق. اضطر أكبر حزب سوري (حزب الشعب) إلى هدهدة هواه السوري بالعراق، عندما قامت الوحدة بين مصر وسورية (1958). منذ الستينات، غير السوريون رأيهم في «ليلى المريضة في العراق». حاول بعث العراق وسورية استعادة الوحدة مع عبد الناصر. لكن الرجل، بعد انفصال سورية (1961) كان قد صرف هَمَّهُ من الوحدة إلى الاشتراكية، متخوفا من انقلاب يدبره اليمين في مصر ضده.

صدام حسين قضى بالسيف على الهوى العراقي المفاجئ بسورية الذي انتاب جناح رئيسه البكر (1979). من يومها، أصبح العراق مجرد ذكرى، كاد حافظ الأسد أن يمحوها من ذاكرة السوريين، بعدما دَجَّنَهم وَحَيَّدهم سياسيا، وفرض عليهم حلفا (فوق الطبيعة) مع إيران في ذروة حربها مع العراق.

هوى الأسد بإيران الخمينية (الخميني بعثي بعمامة) لم يمنعه من ممارسة ازدواجيته السياسية في التعامل مع ذوي القربى. حلفه مع إيران لم يمنعه من مشاركة مصر والسعودية عسكريا في إخراج صدام من الكويت، فيما كان يدين الحرب الأميركية على العراق! بل سمح مكر ودهاء الازدواجية، بمد الأسد طوق النجاة إلى خصمه اللدود صدام. أقول هنا إن طارق عزيز عقد في دمشق (1997) صفقة سرية مع الأسد، مكّنت صدام من تهريب ما يعادل 150 ألف برميل يوميا من النفط، بمنأى عن الاتفاق الدولي (النفط في مقابل الغذاء).

فعل الأسد ذلك في الوقت الذي كان يوافق رسميا على القرارات الدولية بتشديد الحصار على صدام. رحيل الأسد الأب (2000) لم يمنع الحكومة السورية (الخَفِيِّة) من الاستمرار في ازدواجية الوصل والهجر مع العراق، إلى أن جاء الغزو الأميركي (2003).

حلت إدارة بوش محل صدام في الحوار الصامت مع سورية. كان الحوار جافا ومُتَّسِما بالتهديد والعداء. تركز الضغط الأميركي لمنع تسلل الإرهابيين عبر الحدود. طالب الأميركيون بما يطالب به نوري المالكي اليوم: منع البعثيين العراقيين اللاجئين إلى سورية من دعم المقاومة ماديا ولوجستيا. في سورية اليوم أكثر من مليون لاجئ عراقي.

في هذه الأثناء، كان السوريون، قد تمكنوا من شَقِّ بعث العراق، وتشكيل جناح موالٍ لهم، في مقدمته القيادي محمد يونس الأحمد الذي يطالب المالكي الآن برأسه، بعد تفجير وزارتي الخارجية والمالية في بغداد في الشهر الفائت. أما الأميركيون فقد ركزوا على تسليم قصي وعدي نجلي صدام، وأقارب له بينهم ابن عمه فاتك سليمان المجيد. أذكر هنا أن بوش كان يطالب بتسليمه دبلوماسيا صدّاميا يدعى فاروق حجازي، يتهمه بالتخطيط لاغتيال أبيه، بعد حرب الكويت (1991).

الشماتة السورية بما حدث للأميركيين في العراق كانت واضحة. لكن لهدهدة غلواء ضغوطهم، فقد وَفَّرَ مكر الازدواجية المجال لتعاون معهم في مجال مكافحة الإرهاب. السوريون بشهادة البريطانيين يملكون أسرار حركة كثير من تنظيمات العنف الديني في العراق والمنطقة العربية. غير أن التسلل استمر لاستحالة ضبطه تماما في صحراء مترامية الأطراف، وتسكنها عشائر مرتبطة بعلاقة القربى والتعايش على جانبي الحدود.

أقول هنا إن الضغط الأميركي شكل تخوفا حقيقيا لدى نظام بشار من أن يأتي الدور عليه بعد نظام صدام. لذلك ألحت دمشق على المالكي في طلب ضمانات، خصوصا بعد توقيع المعاهدة التي تجيز للقوات الأميركية البقاء إلى نهاية عام 2011، بعدم السماح للأميركيين، باستخدام أراضى العراق «للعدوان» على سورية. لم يستطع المالكي تقديم هذه الضمانات عمليا. فقد أغار الأميركيون عدة مرات على بلدات ومراكز سورية، عبر الحدود، بحجة ملاحقة «الإرهابيين» المتسللين. في المقابل، راح بشار يوثق علاقاته مع الإيرانيين والأتراك، وتنظيمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وعلى الرغم من اضطراره لسحب القوات السورية من لبنان (2005) إثر مقتل الحريري، وتدهور علاقاته مع مصر والسعودية، فقد استغل متاعب إدارة بوش في العراق وفلسطين، لاستعادة مكانة أبيه كلاعب في اللعبة الإقليمية، بالتنسيق مع إيران نجاد التي تمكنت بدورها من تحقيق اختراق أكبر للمشرق العربي.

يبدو لي المالكي ضحية التوازن «المهزوز» في العلاقة الإيرانية السورية. نعم، وَثَّقَ بشار حلفه الاستراتيجي مع إيران. لكنه يحرص على إبقائها بعيدة، جغرافيا، عن سورية. من هنا، يمكن ملاحظة رغبة سورية في إبقاء المقاومة البعثية والسنية الدينية نشيطة، ضد نظام شيعي في العراق يرتبط بعلاقة وثيقة بإيران، أما إيران فتحاول جهدها تثبيت استقرار النظام العراقي الحالي، لتتمكن من خلال نفوذها في العراق، من منع توصل سورية إلى سلام مع إسرائيل.

وهكذا، يبقى المالكي موضع شبهة لدى السوريين، في علاقته الوثيقة مع إيران. هذه الشبهة لم يبددها ابتعاد المالكي عن الائتلاف الشيعي العراقي المرتبط بإيران، وتقديم نفسه إلى العراقيين والسوريين والعرب، كرجل دولة وعراقي مستقل غير منحاز. (المالكي في مسارعته لاتهام سورية بتفجير الوزارتين، زاد من شبهة السوريين به. بل كان استقبال بشار له، قبل الحادث، فاترا، وأحاله بروتوكوليا على «باشكاتب» الحكومة ناجي عطري الذي لا يملك صلاحية سياسية لمفاوضة المالكي في شؤون أمنية وسياسية دقيقة، كالوعد بكف التسلل ووقف نشاط البعثتين ضد نظامه.

هل كان «البعث» المرتبط بسورية وراء عملية النسف المريعة؟ إذا كان البعث فعلا وراءها كما يدعي المالكي، فهل كانت السلطات السورية على علم وخبر؟ أجيب هنا بأن تقديم «شاهد» يعترف على نفسه أمام الشاشة بأنه «شافشي كل حاجة» لم يعد لائقا بمصداقية أي نظام عربي. المالكي الذي يقول أنه يرأس عراقا ديمقراطيا، كان عليه أن يترك لقضاء مستقل الحكم بالبراءة أو الإدانة، بعد تقديم المستمسكات.

نظام بشار ينفي عبر إعلامه ودبلوماسييه. لكن الشبهة تكتسب يوما بعد يوم شيئا من المصداقية، بحكم سوابق سورية معروفة، ما من داع هنا لتردادها. هذه الشبهة تسيء كثيرا للنظام السوري، بعدما تمكن من فك الحصار الأميركي، ومد الجسور مع أوروبا وتركيا التي لبست بوارد عرض وساطتها بين البلدين العربيين، لولا ضوء أخضر من حليفتها أميركا، بعد إخفاق الوساطة الإيرانية. بالمناسبة، أريد أن أزيح الستار عن مأساة سورية تحرج النظام، ربما بأكثر من إحراج المالكي له بتهديده بمقاضاته أمام محكمة دولية شبيهة بمحكمة الحريري: أكثر من أربعة ملايين سوري في المنطقتين الشرقية والشمالية الشرقية المحاذيتين للعراق يعيشون منذ تلف الموسم الزراعي الصيفي، بسبب الجفاف واللامبالاة، حالة مجاعة حقيقية. سكان منطقة «الجزيرة» التي كانت يوما سلة سورية الغذائية ينزحون، طلبا للعمل وهربا من الجوع إلى الداخل، وصولا إلى المنطقة الساحلية.

بعد لأي، تحركت الإدارة السورية. رتبت مساعدات غذائية وتموينية عاجلة، خوفا من انفجار شعبي، وتخوفا من الإخلال بالتركيبة السكانية والطائفية في المنطقة الساحلية. أكتفي بهذا القدر، لا للإحراج ولا للمزايدة، وإنما لأضع حقيقة سورية مؤلمة أمام عيون العرب والعالم، لعل الإغاثة المستعجلة، إذا سمحت كبرياء النظام، تنقذ كبرياء شعب يجوع.