هل هي القطيعة بين بغداد ودمشق؟

TT

أثار التأزم في العلاقات الرسمية العراقية السورية على هامش تفجيرات بغداد الأخيرة تساؤلات عديدة، تصطدم بتناقضات وصعوبات في إيجاد تفسير لما يحدث، ومعظم المعارضين العراقيين للنظام السابق أقاموا في سورية لفترات طويلة، ويعرفون قدرة الأجهزة الأمنية السورية في ضبط حركة الأشخاص والجماعات، ولم يستطع أحد الادعاء بمخادعة وتضليل تلك الأجهزة. ولكن تبقى لكل حالة في مكان ما استثناءات طارئة.

وكان المعارضون للنظام السابق محظوظين بوجود تحالف عربي ودولي ضد النظام، مما وفر لهم فرصا أفضل للحماية والتنقل والدعم. أما الآن، فالمعارضون للنظام الحالي في العراق يعيشون ظروفا صعبة جدا ويمكن وصفها بالتعيسة. وعلى الرغم من أن النظام الحالي لا يحظى بتأييد عربي فالكل يتفادون التقاطع السلبي مع الغرب، فهل يعقل أن يقوم قادة بعثيون موجودون على الأراضي السورية بالتخطيط لعمليات عنف على مستوى ما حصل الأربعاء، أو دونها مستوى، من غير علم المخابرات السورية؟ وهل يعقل أن تورط سورية نفسها بمثل هذه العمليات الدموية وقد بدت ملامح مهمة لانفتاح أميركي وغربي عليها، لا سيما وقد قرر الأميركيون الانسحاب من العراق وتغيرت السياسة الأميركية تجاه المنطقة؟ الجواب المنطقي هو النفي.

وكيف يمكن تفسير موقف سوري يتطابق والاتهام العراقي في وقت كانت القيادة السورية تستقبل وفدا عراقيا برئاسة رئيس الوزراء لبحث اتفاق شراكة استراتيجية يحتاجها البلدان في كل المجالات؟

وهنا لا يمكن طرح الأمور الجدلية كما فعلنا في مقال سابق عن التفجيرات، لأن من الصعب أن توافق سورية أو أن تغمض عينيها عن فعل يترك دليلا مُحرجا لها. فغالبا ما تتصرف أجهزة المخابرات العالمية بطرق غير مباشرة تقلل فرص ترك أدلة على وجود بصمات لها في موقف ما.

قبل نحو ثلاث سنوات زار بغداد وزير الخارجية السوري وليد المعلم، وكان الموقف العراقي صعبا جدا، وحل ضيفا على الرئاسة خارج المنطقة الخضراء. وفي أول ليلة قضاها في بغداد، وقبل بدء الاجتماعات الرسمية في اليوم التالي، تحدثت إليه مطولا عن ضرورة قيام سورية بممارسة دورها في تهدئة الموقف الذي ينذر بانفجار كبير، وكانت ردوده والآراء التي طرحها إيجابية. وقد سألني الرئيس عن رأيي بخلاصة الحديث مع المعلم فقلت له إن هنالك فرصة مهمة لتعاون سوري لوقف العنف ضمن حدود إمكاناتهم، وعلى أسس تعاون عراقي سوري مشترك.

وفي كل مرة كان العراقيون يتهمون سورية بتأجيج العنف أو عدم ضبط الحدود كانت دمشق تطلب تزويدها بأدلة عن وجود دور لها أو صدور نشاط تخريبي عبر حدودها. فهل كانت الأجهزة الأمنية العراقية عاجزة عن تأمين ملفات الأدلة بسبب ضعف الخبرة والقدرات، أم أن الأدلة لم تكن متيسرة بما فيه الكفاية؟ هذا ما أصبح ضروريا الكشف عنه خلال الأسابيع القادمة. وفي الحالة الأخيرة تمسك السوريون بتناقضات في تصريحات مسؤولين عراقيين تضع علامات شك على الموقف الرسمي العراقي.

القطيعة بين البلدين ليست ممكنة، فقد ثبت أن القطيعة التي امتدت لنحو سبعة عشر عاما (1979-1996) كانت خطأ كبيرا ترك أثرا سلبيا على كل المستويات، ولم يعد أي من الطرفين قادرا على المبادرة بالقطيعة الشاملة، ومجرد وجود نحو مليون عراقي على الأراضي السورية يعني الكثير مما يمكن تفسيره واستنتاجه.

هنالك نقطة حاسمة لا بد من فهمها عراقيا، وهي أن الكتلة البشرية العراقية على الأراضي السورية ليست كتلة سياحية مؤقتة، وهي في النتيجة تلقي عبئا على المواطن السوري والدولة، وتمثل معاناة بشرية لهذا العدد الضخم من العراقيين الذين غادروا ديارهم ووقعوا تحت ظروف معيشية صعبة، وإن عودتهم إلى بلدهم تعني تحقق مصالحة وطنية فعلية. وبخلاف ذلك فإنها تعد مؤشرا واضحا لعدم استقرار الداخل، ولا يمكن أن يكون لعدم الاستقرار حدود ثابتة بقدر ما تبقى النهايات سائبة ومفتوحة أمام الاحتمالات.

لا شك في مسؤولية دول الجوار عن ضبط حدودها، لكن المسؤولية الأكبر في هذا المجال تقع على الدولة المهدد أمنها، قبل العتب على الآخرين ولومهم أو إلقاء السبب عليهم. وكنت على الدوام أؤمن بضرورة ترتيب البيت الداخلي بحزمة إجراءات أمنية واقتصادية وسياسية وأهمها العدل والمساواة، وعندئذ يتحول المواطنون إلى أجهزة رقابة وآلات تصوير ترصد كل شيء، وهذا هو الأمن الذاتي المثالي لدحر الإرهاب.

وفي كل الأحوال، يجب إدانة الإرهاب والتصدي له والتنسيق الأمني المشترك، وتقع على العراق وسورية والدول العربية الأخرى المضيفة للعراقيين العمل المشترك لتوفير ظروف صادقة ومضمونة لعودة (حرة) و(اختيارية) للعراقيين إلى ديارهم، وهذا لا يأتي بالتأزيم وإنما بسلسلة إجراءات واضحة وعملية وشاملة تعزز الشعور بالأمن لمن يعود.