مخابراتنا و«إمبراطورية سليماني وداغان العربية»

TT

«منزل بدون باب» هكذا وصف أحد مديري أجهزة المخابرات الغربية دول العالم العربي. جاء هذا الوصف ضمن حديث عرضي حول النشاط المتصاعد والنفوذ المتنامي لأجهزة المخابرات الإيرانية والإسرائيلية في دول العالم العربي. وهو وصف لا يبتعد كثيرا عن قلب الحقيقة. فقد كانت هذه الملاحظة إشارة إلى النجاح الكبير، الذي تمكن خلاله رئيس جهاز مخابرات الحرس الثوري الإيراني (جهاز القدس) العميد قاسم سليماني، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلية (جهاز الموساد) الجنرال مير داغان، في تأسيس نفوذ مخابراتي فعال داخل أغلب دول العالم العربي مقابل انعدام شبه تام لأي نفوذ مخابراتي عربي مؤثر داخل إيران أو إسرائيل.

فالقدرة المخابراتية التي تمكنت إيران وإسرائيل من بنائها داخل دولنا ومجتمعاتنا يعد أمرا مقلقا وخطيرا لكل من يدرك أهمية وفداحة قيام دولة أجنية بتأسيس ما يسمى «رصيدا» مخابراتيا داخل دولنا ومجتمعاتنا والنتائج الوخيمة المحتمل تولدها عبر استخدام وتفعيل هذا «الرصيد» لزعزعة أمن واستقرار دولنا وتفتيت مجتمعاتنا، أو للتأثير على صناع القرار فيها على اتخاذ قرارات، أو الامتناع عن اتخاذ قرارات محددة، وهو ما يفقد القيادات العربية استقلاليتها وحريتها في اتخاذ قرار لحماية المصالح الوطنية والقومية العليا.

لم يعد هناك في عالم اليوم أهمية كبيرة للانتصارات العسكرية بالمعنى التقليدي الذي كان سائدا. الانتصارات المخابراتية هي الأهم والأجدى، فهي التي عادة ما تمهد الطريق أمام تحقيق الانتصارات العسكرية، كما أنها أقل في كلفتها المادية والبشرية، لكونها أكثر ديمومة، ونتائجها وتأثيراتها أكثر ضمانا، ولا يمكن بسهولة إثبات تهمة التدخل أو الاعتداء، فلهذا هي أقل خطرا في تبعاتها السياسية وانعكاساتها على العلاقات الدولية. درس العراق يشير إلى أن الولايات المتحدة تمكنت، وخلال أيام معدودة، من إحراز انتصار عسكري حاسم، وتحتل اليوم كل شبر من أرض العراق. كلفة الاحتلال الأميركي للعراق المادية والبشرية والسياسية هائلة جدا. ولكن الحقيقة على الأرض تدل على أن الاحتلال العسكري رغم كلفته السلبية المرتفعة لا يولد سيطرة أو نفوذا وربما لا يمنح أي امتيازات. فبينما الولايات المتحدة تحتل العراق عسكريا فإن إيران تسيطر على مقاليد البلاد مخابراتيا وبكلفة مادية زهيدة ومن دون أية كلفة بشرية ولا سياسية. ففشل الولايات المتحدة في العراق هو بالأساس فشل مخابراتي وليس فشلا عسكريا.

ومنذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وحتى اليوم قامت القيادات الإيرانية بالاستثمار الواسع وطويل المدى لبناء مؤسسات مخابراتية فعالة تدعم سياسة الدولة الخارجية وتحافظ على مصالحها الاستراتيجية وتعزز نفوذها ومكانتها الإقليمية والدولية. وكان من نتائج هذا «الاستثمار المخابراتي» أن تمكنت إيران من بناء «دول داخل بعض دولنا»، وتفعيل طابور خامس يأتمر ويعمل بقرارات طهران ويحدد مواقفه لخدمة المصالح القومية العليا للدولة الفارسية. وأمسى صناع القرار في بعض أجزاء العالم العربي ينتظرون قرارات وتوجيهات القيادة الإيرانية، أو حتى تلميحاتها، قبل البت في أمور تتعلق بصلب السياسة الداخلية للدولة.

ومن خلال «الاستثمار المخابراتي» الناجح تمكنت إسرائيل من امتلاك قدرات «اليد الطولى» داخل بعض الدول العربية، تمكنها من جمع المعلومات الدقيقة أو تنفيذ عمليات التصفيات الجسدية أو العمل العسكري الناجح لكل من يشكل تهديدا لأمن الدولة العبرية. كما شاهدنا أخيرا في عمليات اغتيال عماد مغنية في قلب العاصمة السورية أو في تدمير المواقع النووية المفترضة في عمق الأراضي السورية أو في مهاجمة شحنات الأسلحة المفترضة في قلب الأراضي السودانية، وجميع هذه العمليات هي عمليات أو انتصارات مخابراتية أساسا وليست عسكرية.

ما لم ندركه حتى الآن، كعرب، حقيقة أن الاستثمار المخابراتي الناجح لا يحتاج بالضرورة إلى رصد ميزانيات طائلة بل إلى التفكير والتخطيط والتنسيق، والحسابات الصحيحة ذات المدى الطويل، والتجرد من عنصر الولاءات الشخصية والمحسوبية في بناء مؤسسات وأجهزة المخابرات الخارجية. فرغم وجود إحدى وعشرين دولة عربية مستقلة، ورغم تعدد الأجهزة المخابراتية في كل دولة من هذه الدول، ورغم الميزانيات المالية الكبيرة المخصصة للأجهزة المخابراتية العربية والتي يفوق بعضها ميزانيات دول وشعوب بكاملها، وأغلبها ميزانيات مفتوحة خالية من القيود أو الحدود، وجميعها ذات طبيعة سرية. ورغم العدد الهائل من العاملين في الأجهزة، من جميع الفئات التي تشمل الموظفين والمستخدمين والمرتبطين والمنتفعين والمتعاونين وغيرهم والذين تقدر أعدادهم بالآلاف المؤلفة في كل جهاز. ورغم الاهتمام والعناية الخاصة التي توليها القيادات السياسية والامتيازات المادية والمعنوية الخاصة التي يتمتع بها أعضاء الأجهزة المخابراتية. ورغم ظاهرة عدم المساءلة والحماية السياسية وحتى الحصانة القانونية التي تتمتع بها هذه الأجهزة والعاملون فيها، وهو ما يوفر حرية في الحركة والتصرف غير محدودة،.. رغم كل هذا وذاك، فإن عجز الأجهزة المخابراتية العربية عن توفير الحماية للوطن والمواطن وعجزها عن خدمة مصالح الأمة ومصالح الدول الاستراتيجية أمسى ظاهرة خطيرة لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها.

وعلى ضوء كل هذه الحقائق المؤلمة يحق لكل مواطن عربي توجيه سؤال بسيط لما يسمى بـ«المجتمع المخابراتي العربي»: أين أنتم؟ وما هي إنجازاتكم؟ فلا وجود لأي دور لأجهزة المخابرات العربية في أهم وأخطر الأزمات التي تعصف بالعالم العربي وتهدد كياننا واستقلالنا وسلامة أراضينا وبشكل جماعي. ففي الأزمة العراقية اكتشفت أجهزة المخابرات العربية، ودون استثناء، أنها «خرجت من المولد بلا حمص» لصالح أجهزة المخابرات الإيرانية، وفي أزمة غزة اكتشفت أجهزة المخابرات العربية أن جهاز المخابرات الإيرانية يعمل في «حديقتهم الخلفية»، ويتكرر هذا السيناريو المؤلم في كل يوم وفي جميع الأزمات الخطيرة في لبنان، والسودان، واليمن وغيرها من الأزمات القائمة والقادمة منها.

«المجتمع المخابراتي العربي» يقف اليوم في موضع الدفاع عن النفس ويخصص الجزء الكبير من طاقاته لمحاولة تقليل الخسائر من عمليات الاختراق المخابراتي المضاد، ولا يمتلك القدرات للقيام بعمليات اختراق مماثلة تعيد جزءا من التوازن المطلوب، ولا يمتلك وجودا موازيا في دول ومجتمعات من يهدد أمننا واستقرارنا. السؤال الملح اليوم: هل انعدام النشاط المخابراتي العربي يمكن أن يعزى لعدم قدرة هذه الأجهزة على تأسيس التواجد؟ أم هو عدم الرغبة في تأسيس التواجد؟ في اعتقادي أن ادعاء عدم الرغبة، أو عدم وجود مصلحة في التواجد لا يتعدى كونه حجة واهية استخدمت لتغطية السبب الأساسي. والحقيقة الماثلة المؤلمة هي عدم امتلاك هذه الأجهزة القدرة أو الكفاءة لحماية دولنا ومجتمعاتنا من النشاطات التدخلية الخارجية والنشاطات التخريبية. وأغلب أجهزة المخابرات العربية تعاني من أمراض مزمنة لكونها تقوم على أسس الولاء وليس الكفاءة أو القدرة كمعيار أو متطلب لتولي المسؤولية، والولاء هنا ليس بالضرورة الولاء للوطن، بل تحديدا وربما حصريا الولاء الشخصي، وعلى جميع مستوياته وتشعباته المختلفة. ومعظم أجهزة المخابرات العربية تشكو من ظاهرة تضخم في عدد المنتسبين، وتضخم في عدد الضباط من ذوي الرتب العالية، وظاهرة الترقية غير المنتظمة والتي تقوم على أساس حرق المراحل، وظاهرة سيطرة الطموحات السياسية والسلطوية لبعض قياداتها.

أجهزة المخابرات العربية لا تمتلك عيونا ولا تمتلك آذانا ولا تمتلك أصابع في أرض من استباح دولنا ومجتمعاتنا. أين أصابعكم داخل إيران؟ وأين أصابعكم داخل إسرائيل؟ كيف يمكن ردع التدخل الإيراني أو الإسرائيلي وتدخلات مخابرات الدول الأخرى في الشؤون الداخلية العربية دون امتلاكنا لقدرات مماثلة وموازية. العمل المخابراتي لم يعد عملا ارتجاليا أو عشوائيا، بل تطور ليكون فنا وعلما قائما بحد ذاته. ومن الممكن القول: إن أفضل وأبقى استثمار تقوم به أي دولة اليوم، هو ليس التركيز على شراء المزيد من المعدات والأسلحة العسكرية التي تكلف المليارات ومصيرها الصدأ أو الاستعراض أمام كاميرات التلفزة، الاستثمار المنطقي هو في تبني عقلية واستراتيجية مخابراتية جديدة تقوم على نظرة طويلة المدى وتأهيل جيل جديد لأجهزة المخابرات العربية الخارجية قائم على أسس الاحتراف، وإنشاء مؤسسات تدريب وتأهيل تتمتع بالإمكانيات والمؤهلات المطلوبة. أخيرا، ليس من العدل أو الإنصاف التعميم هنا، فهناك بلا شك أجهزة مخابرات خارجية عربية تعمل تحت ظروف صعبة وبإمكانيات محدودة وتقدم إنجازات ملموسة.

* مدير قسم دراسات الأمن ومكافحة الإرهاب في مركز الخليج للأبحاث