مناصحات.. ومراجعات

TT

سلمت الكثير من الدول التي عانت من ظاهرة الإرهاب والتطرف أو آثارها بأن محاربة هذه الظاهرة التي أسالت انهارا من الدماء في العقدين الأخيرين، وأعطت سمعة سيئة للمسلمين في العالم، ليست عملية أمنية فقط, لكنها أيضا عملية فكرية لكسب العقول إذا أريد محاربة التطرف من جذوره.

وفي إطار الجزء الفكري من الحرب ضد الإرهاب, كان هناك إدراك بأن هناك الكثير من الشباب الذين تم التغرير بهم ويمكن استعادتهم مجددا إلى المجتمع, وكان هؤلاء هدفا لبرامج سميت بالمناصحة، كان أبرزها البرنامج الذي تبنته السعودية, ولقي اهتماما خاصا من الولايات المتحدة، وقبلها كانت هناك المراجعات التي جرت للجماعة الإسلامية في مصر, ثم هناك الآن المراجعات التي ما زالت في طور البلورة للجماعة الإسلامية الليبية.

ونجحت هذه الجهود والبرامج في حالات وأخفقت في حالات أخرى, وهو أمر طبيعي، فالناس ليسوا كلهم مثل بعضهم, فهناك قياديون اعتنقوا الفكر المتطرف, أو حتى مارسوا أعمالا عنيفة وتراجعوا عنها، وحتى فندوا فكرهم السابق في كتب ونظريات, وهناك من تراجعوا لفترة أو تظاهروا بذلك ثم تراجعوا عن التراجع.

لكن في الحساب الإجمالي للربح والخسارة, فإن الكفة كانت تميل لصالح هذه البرامج سواء كانت مناصحات أو مراجعات, من خلال إعادة غسل عقول مغسولة لشباب تم استغلالهم أو التغرير بهم باسم الدين ليكونوا معاول هدم, أو في إيجاد إطار نظري يفهم أدبيات هذه الجماعات ويحاربها بنفس لغتها.

ولا بد أن ذلك كان في ذهن وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز عندما تحدث في أعقاب المحاولة الفاشلة التي تبناها تنظيم القاعدة لاغتيال الأمير محمد بن نايف مساعد وزير الداخلية, عندما أكد أن ذلك لن يغير سياسة إبقاء الباب مفتوحا أمام من يريدون التراجع.

ولا بد أيضا أن مثل هذه البرامج كانت في ذهن مخططي «القاعدة» عندما أرسلوا الانتحاري الذي فجر نفسه, واستقبل بزعم أنه يريد التراجع وتسليم نفسه, على اعتبار أن حرب الأفكار أخطر عليها منه كشف خلية أو مقتل مسلحين تابعين لها, لأن حرب الأفكار تعني تجفيف الماء العكر الذي تصطاد وتجند منه عناصرها.

وهي كما يبدو حرب طويلة لن تنتهي في عام أو عامين بشقها الأمني أو الفكري, لأن هذا الفكر المتطرف أخذ عقودا في ترسيخ نفسه, بينما كانت الدول غائبة عنه أو لا تدرك خطره الحقيقي, وفي بعض الأحيان تصورت أنها يمكن أن تستخدمهم فارتدوا عليها.

وينبغي القول إن الجانب الأكبر من الجزء الفكري في هذه الحرب يتعلق بتحصين المجتمع ككل، ومحاصرة الفكر المتطرف من خلال أفكار التسامح وتصحيح المفاهيم الخاطئة, وعدم المهادنة مع الذين يعطون إطارا فكريا يسمح بالتكفير وتبرير العنف, وكذلك من خلال التعليم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ولا يعني ذلك أن التطرف سيختفي تماما, فهي مسألة مصاحبة لحراك المجتمعات, وتأخذ أشكالا عديدة, شوفينية وقومية وعنصرية ودينية, المهم محاصرتها لتبقى في إطار الجريمة العادية, لأن انتشارها وهيمنتها لا يجلب سوى الخراب كما تفيد التجارب التاريخية.