تركيا والحرب في أفغانستان

TT

أمين عام منظمة حلف شمال الأطلسي راسموسن الذي لا يحبه الأتراك كثيرا، والذي جاء يطالبهم بزيادة عدد قواتهم العاملة في أفغانستان وتفعيل حركة ورقعة نشاطات هذه القوات متمسكا بأهمية الدور والموقع التركي هناك كبلد إسلامي يشارك الغرب في هذه المهمة، لم يأخذ كل ما يريده من حكومة العدالة والتنمية على ما يبدو.

ومع أن تركيا لم تصل هي الأخرى إلى النتائج التي كانت تراهن عليها وهي تتراجع عن معارضتها لانتخاب راسموسن أمينا عاما للناتو بسبب مواقفه وطريقة تعامله السلبية مع مسألة نشر صور ورسوم مسيئة للنبي الكريم وإصراره على تكرار «فوائد الديمقراطية وحرية الفكر والتعبير» في العاصمة التركية مرة أخرى، فإن الأتراك لم يضعوا بين يديه ما يشجعه على المغادرة متفائلا حيال أكثر من ملف وقضية إستراتيجية جاء يناقشها مع الأتراك. كل ما أنجزه راسموسن حتى الآن كما فهمنا هو قبوله تكليف رجب طيب أردوغان لاصطحابه إلى مائدة إفطار رمضانية يحدثه خلالها عن التسامح والمحبة والألفة في الإسلام ويدعوه لتبني فكرة تنظيم لقاء مشترك بين منظمتي دول العالم الإسلامي والناتو لتبادل الأفكار في إطار حوار مباشر على طريق إطلاق بداية نقاش فكري حضاري جديد يزيل رواسب الماضي وسلبياته.

خطأ راسموسن الأكبر هو أنه جاء يعلن من أنقرة «أننا سننتصر في حربنا هناك» متمسكا بوصف ما يدور بأنه مواجهة تقودها منظمة حلف شمال الأطلسي في أفغانستان باسمها لحماية مصالحها ومتجاهلا أن الحرب الأفغانية تعني الأفغانيين قبل غيرهم وأن ما يقدمه الناتو هو مجرد دعم للحكومة المركزية والشعب الأفغاني في منع تشتت وتشرذم البلاد وتفككها.

ما يباعد بين الطروحات التركية والأطلسية في أفغانستان هو إصرار الأولى على اعتبار أن نجاح القوات الدولية في مهمتها لن يكون عبر العمليات العسكرية بالدرجة الأولى وأن القوات الإضافية التي تصر أميركا على إرسالها إلى هناك مهما سجلت من انتصارات عسكرية على الأرض فهي لا بد لها من أن يصحبها انتصارات سياسية أمنية اقتصادية تنموية يواكبها تسليم دفة القيادة إلى الأفغانيين مباشرة يقررون ما يختارونه ويرونه مناسبا في تحديد مستقبل بلادهم. بإيجاز تركيا تصر على عدم التورط في حرب من هذا النوع تتفاعل وتتشعب وتنعكس سلبا على مصالحها وأهدافها ليس على مستوى أفغانستان وحدها بل تطال وتهدد ما بنته حتى الساعة من علاقات سياسية واستراتيجية جديدة مع الكثير من دول العالم الإسلامي.فتمسك أنقرة بالقرارات الدولية للأمم المتحدة وإصرارها على جعل مبادئ هذه المنظمة فوق قرارات وسياسات حلف شمال الأطلسي يقابله إصرار واشنطن على نشر مظلات الصواريخ العابرة للقارات على الأراضي التركية والتمسك بدور تركي واضح وملزم في أية حرب محتملة مع إيران يختلف شكلا ومضمونا عن الموقف التركي من الحرب على العراق عام 2003.

تركيا التي تعد نفسها لتسلم قيادة القوات الدولية العاملة في أفغانستان للمرة الثالثة هذا الخريف يبدو أنها ستوافق على زيادة عدد جنودها هناك لكنها لن تقبل بسهولة التواجد في مناطق العمليات العسكرية أو المشاركة فيها مرجحة زيادة عدد الخدمات الاجتماعية والصحية التي قدمتها حتى الآن.. 3 مدارس ابتدائية، مستوصف للخدمات الصحية، حفر عشرات آبار المياه الجوفية، تجهيز برادات لتخزين المواد الغذائية والكثير من حملات التعليم وإمدادات شبكات الكهرباء والمياه في قرى البلاد بكلفة 70 مليون دولار صرفت حتى الآن.

التجربة العراقية المريرة تدفع حكومة العدالة للبقاء بعيدا عن بؤر الحرب والعمليات العسكرية هناك فهي أولا لا تريد الدخول في أزمة مع قواعدها الإسلامية وهي ثانيا غير مستعدة لتحمل وقوع المزيد من الخسائر في صفوف قواتها المسلحة التي تخوض منذ سنوات حربا طويلة مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني كلفتها المئات من القتلى حتى اليوم. وهي ـ وهذا هو الأهم هنا ـ لا تريد أن تظهر كالمتراجع عن سياسة متوازنة في علاقاتها الإقليمية والدولية وتكون في موقع من ينفذ السياسات الأميركية التي ترسمها إدارة أوباما الجديدة.

لكن تركيا وكشريك قديم وفاعل في حلف شمال الأطلسي لا يمكنها المضي في سياسة ضربة على الحافر وأخرى على المسمار في التعامل مع شركائها في الحلف، إذا ما كانت راغبة في تكريس موقعها ودورها الإقليمي. وهي تعرف تماما أنها إذا لم تكن قادرة على التأثير في تحديد الاستراتيجيات والسياسات داخل هذا التكتل كما تريد فهي ملزمة بقبول قراراته وتنفيذها كما يقررها الآخرون. وحرب أفغانستان قد تكون اقتتالا داخليا محضا لكن ما يجري هناك وانعكاساته وردوده السلبية والهجمات التي تنفذ باسم الدين من قبل جماعات متطرفة متشددة تصر على نشر ما تتبناه بالقوة وبما يناسبها هي، بات يهدد استقرار وسلامة الكثير من الدول حتى الإسلامية قبل غيرها ويستدعي تحمل الجميع مسؤولياته حيال ما يجري ليس لإنقاذ الغرب وقواته ومصالحه في أفغانستان بل الزود عن العشرات من الأبرياء الذين يسقطون يوميا هناك وحماية تعاليم الدين الحنيف وروح الاعتدال والتسامح والألفة التي يتبناها ويدعو إليها.

الانتصارات العسكرية في أفغانستان لن تكون الحل الأنسب حتما، لكن إيقاف حمامات الدماء بات ضرورة تعني تركيا وغيرها من دول العالم الإسلامي إذا ما كانت تريد حقا تبني سياسة فاعلة تساعد الحكومة المركزية الأفغانية على انتشال شعبها من مستنقع الفتن والتخريب والتدمير هذا.

* كاتب وأكاديمي تركي