حركات خارج النص

TT

يسمح النسق السياسي المتفتح في المغرب بأن تحدث أمور شاذة، من قبيل أن تعمد جماعة من المواطنين لإنشاء جمعية للصداقة مع إسرائيل، معاكسة لواقع شعبي ورسمي لا يقبل مبادرة مثل هذه. إن أي مظاهرة شعبية تنظم في المغرب، للتضامن مع الشعب الفلسطيني، لا يقل عدد المشاركين فيها عن المليون، ويشارك فيها مغاربة من كل الأعراق، بمن فيهم وطنيون يهود. وحينما فتح حساب بنكي لإيداع تبرعات لأهل غزة في محنتهم الأخيرة، سجلت أرقام مرتفعة لمساهمات المغاربة، وخاصة من لدن صغار المتبرعين. وقد أودع هؤلاء في حساب وكالة بيت مال القدس، في حملة رمضان السنة الماضية، ما لا يقل عن 550 ألف دولار.

من المؤكد إذن أن المبادرة المشار إليها لا تعبر عن نبض الشارع المغربي، فضلا عن أنها تبتسر الأشياء وتبتذل المفاهيم. فالمبادرة انتحلت لها اسما عريضا هو الصداقة بين المغاربة الأمازيغيين، واليهود المنحدرين من أصل مغربي، المستوطنين في إسرائيل. وهذا انتحال، لأنه توجد في مقبرة دمشق قبور للعديد من شهداء حرب أكتوبر المجيدة، يحمل الكثيرون منهم أسماء أمازيغية. ومعلوم أن التشكيلة العسكرية التي ضمت الجنود المغاربة الذين توجهوا إلى جبهة الجولان، كانت تتركب أساسا من المتطوعين، فقد كان العدد المطلوب توجيهه لجبهتي الجولان وسيناء محدودا، وكان القائد العام للقوات المسلحة الملكية يعرف أن الراغبين في المشاركة في معركة الشرف أكبر من العدد الممكن توجيهه إلى الجبهتين، ولهذا قرر الحسن الثاني ـ رحمه الله ـ أن تنصب سبورات في الثكنات لتسجيل أسماء المتطوعين، ومن بين هؤلاء تم اختيار المجندين.

إن الأمازيغيين المغاربة معروفون بأريحيتهم وتفانيهم في المعارك المصيرية، وهم يعرفون أن معركة فلسطين هي ليست بين المسلمين واليهود، وليست معركة يخوضها عرب لدوافع عرقية. والمغاربة جميعا وضعوا أنفسهم منذ وقت في الموقف الصحيح في معركة فلسطين. وفي الثلاثينيات، حينما زار المغرب الطاهر الفتياني، مندوب الهيئة العربية العليا لفلسطين، كانت جولته في الريف الشرقي بشمال المغرب (الأمازيغي أساسا) أكثر عطاء من كل مراحل جولته الموفقة في شمال المغرب. بل إن عملية التبرع لفلسطين استمرت في الريف مدة طويلة بعد جولته، كما توثق لذلك رسائل ومحاضر تركها مندوب المخزن الخليفي في شرق الريف، عمرو وشن.

إن المبادرة المشار إليها في بداية هذا الكلام، لا يمكن أن تكون معبرة عن المشاعر التي تعم الأمازيغيين المغاربة، ولا يمكن أن تخاطب كل اليهود المنحدرين من أصل مغربي في إسرائيل. فبكل تأكيد لا يمكن لسيمون بيتون، وغيرها من المناضلين في سبيل سلم عادل ودائم، إلا أن يضعوا الأمور في نصابها. فهم يعرفون أي مشاعر يكنها المغاربة المسلمون، نحو مواطنيهم اليهود، الذين تظلهم وإياهم سماء وطن واحد، هم عازمون على أن يكون وطنا يسوده الوئام والاحترام المتبادل.

إن بعض المبادرات الشاذة تقصد بها الإثارة الإعلامية أكثر من شيء آخر. ولكن حتى ذلك الغرض لا يتحقق لأن الرأي العام يعرض عنها. فقد سعت نفس الجماعة التي أطرت مبادرة الصداقة الأمازيغية اليهودية إلى التعريض بالحكومة المغربية في بروكسيل، وطلبت منذ نحو عام في مذكرة، مرت بدون لفت النظر، أن تتوقف دول الاتحاد الأوربي عن إعطاء المغرب صفة الدولة الأكثر حظوة في الاتحاد، وذلك بدعوى أن الحكومة المغربية تطبق سياسة تمييزية ضد الأمازيغ. ومثل ذلك صنعت منظمة البوليزاريو. وقد وقع صرف النظر في بروكسيل عن ذينك المسعيين، أولا لأن حسابات الدول تسير بمنطق تدخل فيه عدة اعتبارات، وثانيا لأن الدول الأعضاء في الاتحاد تعرف حقيقة الواقع، وتعرف أن العهد الحالي بالذات قام بخطوات ملموسة في إحلال اللغة الأمازيغية في مكانتها في النسق التربوي المغربي لأجل تأهيلها، وذلك في غمرة إرادة واضحة للمجتمع والدولة ترمي إلى تصحيح الأوضاع بخصوص المسألة اللغوية، إنصافا لجزء من المغاربة كان يحس بالتهميش.

إن المغرب بلد متنوع الأعراق، وقد عرف طيلة قرون كيف يدبر تنوعه. وحينما وصل الإسلام إلى هذه الربوع وجده مزيجا متنوعا كان قد تألف عبر العديد من الهجرات. ولما وجدهم الفاتحون في المناطق التي وصلوا إليها يتكلمون لسانا مختلفا لم يفهموه قالوا إنهم يبربرون، وسموهم بربرا، وأما هم فيسمون أنفسهم الأمازيغ. وكذلك هم مغاربة اليوم، نسيج متنوع في الألسنة والأنساب، ولكن مكوناته متحدة في الأهداف والمصالح، ومتوحدة في الانتماء إلى وطن أواهم عدة قرون وتعايشوا في ظله، من أمازيغ وعرب وسود وأندلسيين وصحراويين ويهود، عرفوا كيف يصوغون توازنات حفظوا بها عمرانهم.

إن الإسرائيليين المنحدرين من أصل مغربي، يحتفظون بذاكرة وعاطفة قويتين، تجعل لهم صلات خاصة مع كل المغاربة، وليس فقط مع الأمازيغيين منهم. ومنهم أولئك الذين كان أجدادهم قد طردوا من إسبانيا في القرن الخامس عشر، وهم مدينون للمغرب بأنه أواهم، مثل باقي الأقطار المسلمة، حينما عز النصير. والذين يوجدون منهم اليوم في إسرائيل يعرفون أن آباءهم متنوعون في مشاربهم، وهم ليسوا فقط من أصل أمازيغي. إن ما يجمعهم بالمسلمين من أواصر ليس حديث العهد. فقد كان الشاعر الأندلسي ابن نيغريلا وزيرا في بلاط بني زيري الأمازيغيين، حكام غرناطة منذ نحو عشرة قرون. وهذا معناه أن هناك ذكريات قديمة وتراثا مشتركا، والصداقة مع الثقافة العربية الإسلامية ليست كلاما خياليا.

وإنه لمن تحريف الواقع الادعاء بأن جماعة من الناس في المغرب، لها أن تمثل كل الأمازيغيين المغاربة، وأن جماعة من يهود إسرائيل يمثلون كل المنحدرين من أصل مغربي.

ذكرت في طيات كلامي المخرجة بيتون، التي يكاد كل إنتاجها السينمائي يتمحور حول معاناة الفلسطينيين، ويحضرني الآن مثال آخر لشاب يهودي في إسرائيل، منحدر من أصل مغربي، أنجز دراسة في مستوى الدكتوراه كان موضوعها «مغربية تيندوف من خلال وثائق حاخامية». فانظر كيف أن شابا ولد بعيدا عن المغرب، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في إسرائيل، ويختار موضوعا لأطروحته الجامعية، مسألة الحدود الشرقية للمغرب. أي على عكس جماعة الصداقة مع إسرائيل التي التقت في مسعى موحد لدى بروكسيل مع «البوليزواريو» للكيد للمغرب.

إن العلاقة مع إسرائيل مسألة سياسية، وأما العلاقة مع يهود العالم المنحدرين من أصل مغرب الموجودين في شتى أقطار المعمورة، وليس في إسرائيل فحسب، فهي مسألة ثقافية وروحية، وهي شأن يجب التعامل معه بجدية أكبر من مجرد الرغبة في احتلال عنوان في صحيفة. والأواصر قائمة فعلا عبر قنوات سليمة ومشروعة، مثل ما كان عليه الحال في وقت من الأوقات عبر «هوية وحوار»، ومثل ما يمثله «التجمع العالمي لليهود المغاربة». وأمور مبسترة مثل التي تصدت لها جماعة «أمازيغ ويهود» لا تعدو أن تكون قفزا على الواقع، وحركات خارج النص.

إن العلاقة مع إسرائيل مرهونة بالإذعان للشرعية الدولية كما يقرؤها كل الأنام، من «السلام الآن» إلى أوباما. أي الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الوطنية. وهذه نعم رؤية توحد الشعب المغربي برمته شعبيا ورسميا. وحتى فئات واسعة من الرأي العام الإسرائيلي تلتقي مع هذا الطرح الذي تزداد اتساعا رقعة المقتنعين به، يوما عن يوم.