خواطر ساذجة

TT

لخليل تقي الدين كتاب جميل بعنوان «خواطر ساذج». والخواطر الساذجة ليست حكرا عليه ولا على زمنه. وقبل سنوات قليلة كنت أمشي على النيل وأتأمل واجهات القاهرة التعبة التي سكنها الغبار، عندما خطر لي أنه لا بد لواجهات النيل وتطريزاته القديمة من جمعية إنقاذ، على طريقة إنقاذ البندقية من الغرق وبرج بيزا من السقوط. ثم قلت في نفسي، وأنا أتأمل حجمها بين الملايين وعلى صفحة النيل، ومن أنا لكي أقترح مثل هذا العمل؟ وتذكرت فكرة أخرى، تذكرت يوم تغير لون باريس من مكفهر قاتم إلى أبيض بهيج، عندما اقترح وزير ثقافة ديغول، أندريه مالرو، على رئيسه مشروع إعفاء الباريسيين من الضرائب لكل من يغسل حجارة مبناه. ثم قلت في نفسي، هذه خاطرة ساذجة أخرى، فما أنا بوزير ولا مهندس ولا مستشار.

لكن كل هذه النافيات لا تعني أنني لست واحدا من الآلاف الذين يحبون واجهات النيل، على الضفتين، إلى هذه الدرجة من السذاجة. وسواء كنت مصريا أو عراقيا أو بحرينيا، فأنا من جيل أدرك القاهرة وهي بعد قاهرة محمد علي والخديوي إسماعيل وعاشقي العمارة المطرزة والجادات الفسيحة والشرفات المطلة على النجاشي، أسمر حليوة، كما وصفه شوقي. وما هي مآخذ عزيزنا أدونيس على مولانا شوقي؟ مأخذه الأكبر أنه ظل غنائيا كالأقدمين كأنه من العصر العباسي. يسامحك ربي. أليس هذا أعظم ما في الأمير؟ وهل تعرف من بعده من حافظ على بحر المتنبي وإيقاع البحتري؟

ماذا حدث لواجهة النيل؟ حدثت السنون والعمر والزحام والجماهير وزعقة التكاسي البيجو. وحدث ذلك في بورسعيد والإسكندرية، درتي مصر وضرتي القاهرة. ومن حسن حظ إسكندرية أنه جاءها مرة محافظ على طريقة أندريه مالرو فأحبها ورعاها وأعاد إليها شيئا من ماضيها الساحر. ولم يكن سهلا عليه أن يقتحم تلك الغريزة في دماء المصريين، وهي أن مصر أم الدنيا والقاهرة أم مصر. هي مصر. وإذا كبرت قليلا أصبحت مصر الجديدة.

عفوا، نسيت بين الأسباب التاريخية شيئا أساسيا. فقبل أشهر ألقى الأديب جمال الغيطاني محاضرة خلاصتها أن الفنادق التي بناها الأمير الوليد بن طلال، هي التي أساءت للعمارة المصرية. وحتى تاريخ المحاضرة كنا نعتقد أن أفضل ما حدث لصناعة السياحة في مصر في العقدين الأخيرين كان فنادق «الفور سيزنس». وربما هذا ما يعتقده وزير السياحة ووزير الثقافة ووزير الاقتصاد. أما العمارة، فهي مسؤولية الوزارة التي تسمح بها. أو تلك التي تسمح بسقوط العمارات كلما اعتقدنا أنها لن تسقط بعد اليوم.