شرف العلم

TT

رويت قبل سنوات طويلة هنا حكاية، هذه خلاصتها: اتصل بي الزميل الراحل نبيل خوري (لم أسمه يومها)، وقال إن صديقا له في مشكلة. فإن ابنه، الذي يدرس في أميركا، أهمل إعداد مطالعة مطلوبة منه، وأمامه أسبوع واحد. وإذا ما أعددتها له في هذه السرعة فالمكافأة 5 آلاف دولار (لم أذكر يومها الرقم).

كنت يومها في حاجة إلى 500 دولار. وأسرعت أعد البحث. ووجدت أنني في حاجة إلى مساعدة، فاتصلت، بكل سذاجة ونية حسنة، بالمؤرخ بيتر مانسفيلد الذي كان له مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط». وشعرت أن الرجل على الطرف الآخر قد ذعر كأنما طلبت منه خيانة بريطانيا. وقال لي بحزم: «يا فلان، هذا عيب. إعداد بحث جامعي كليا لطالب ممنوع في هذه البلاد. لا تحاول الاتصال بأحد في هذا الأمر».

وبعد ذلك بسنوات قليلة أخبرني أحد عمداء كليات الطب في لبنان، فجأة، أنه قرر الهجرة خلال أسبوع. وفاجأني القرار. وسألته إن كان تلقى عرضا أفضل من أميركا، فقال أن لا عروض لديه بعد، وسوف يسعى إلى مكان في الجامعة التي تخرج منها. إذن، لماذا السفر بمثل هذه السرعة؟ لأن ضابطا نافذا في لبنان طلب منه أن يوقع على شهادة (نعم في الطب) لشقيقه. وكان أمامه حل واحد: الهرب.

والآن اقرأ في مذكرات الأستاذ جلال أمين (دار الشروق) أن الدكتور عبد العظيم أنيس، الكاتب وأستاذ الرياضيات، اتصل به مسؤول في مكتب الرئيس أنور السادات وطلب منه أن يعطي دروسا خصوصية لابن الرئيس. وكان الهدف من العرض واضحا، وهو تدريب الابن على اجتياز الامتحان ومعرفة الأسئلة التي ستوضع سلفا. اعتذر عبد العظيم أنيس عن قبول العرض قائلا إنه هو الذي يضع أسئلة الامتحانات، وفي ذلك تضارب مع ضميره ومهنته. وأصر مكتب الرئاسة فاقترح الرجل اسم أستاذ آخر وعدد كفاءاته. وتظاهر المكتب بالقبول لكي لا تنكشف الرغبة الحقيقية. لكن الأستاذ المقترح ظل يذهب إلى مقابلة التلميذ يوما بعد آخر، دون أن يتسنى له شرف مقابلته.

ليس من الضروري إطلاقا أن يكون الأكاديميون الغربيون وحدهم يحافظون على شرف المهنة، أو المهمة. وقد غاب الآن معظم ذلك الجيل، عندنا وعندهم. وعندما كان ابني في الجامعة الأميركية، ذهب إلى أحد أساتذته وقال له: جميع علاماتي تمنحني درجة التميز وبخلك في العلامات قد يحرمني من ذلك. وكان جواب الأستاذ: هذا درسك للحياة. التميز يطلب تميزا مضاعفا. العلامات العالية ليست سهلة عند الجميع.