الرفيقان ميقاتي وجنبلاط

TT

يقول أحد المتهكمين «إن لبنان لا يحتاج إلى فن الكاريكاتور كي يثير سياسيوه ضحك المواطنين، فهم بحد ذاتهم شخصيات كاريكاتورية جاهزة». وأطل منذ أيام مقدم برنامج «دمى قراطية» السياسي الساخر على محطة «إل بي سي» ليطمئن المشاهدين، إلى أن من تفوته الحلقة، بمقدوره متابعة أحداثها، عبر نشرات الأخبار في الأيام التالية. إشارة إلى أن الشخصيات السياسية التي يقدمها كدمى كاريكاتورية، وحواراتها المضحكة، مثل رقصها وغنائها، هي نقل حي لا بل واستباقي لواقع لا يحتاج لمن يضخمه أو يلعب على تناقضاته.

والتناقض الحي بلغ أوجه عند الاحتفاء الغريب بلقاء ميشال عون وسعد الحريري في حضرة رئيس الجمهورية، خاصة بعد أن خرج الرجلان وسط تهليل كاميرات التلفزيون، ليصف أحدهما هذا اللقاء الذي طال انتظاره بأنه مجرد «كسر للجدار» في ما رأى الآخر فيه «إذابة للجليد». فهل الجليد، بين زعيمين لبنانيين، في عز الصيف يحتاج، إلى كل هذا الجهد الجبار والوساطات الرئاسية المكوكية، لتذويبه.

ثلاثة أشهر من دون حكومة، لا يعرف اللبنانيون إن كان السبب هو إصرار الجنرال عون على توزير صهره الراسب في الانتخابات جبران باسيل، واقتناص وزارات بعينها، أم أنه اختلال في معادلة «س. س»، أم هو انتظار لمفاجأة تحملها المحكمة الدولية تطيح ببعض الرؤوس، كما يشيع آخرون. قد تكون كل هذه العناصر مجتمعة هي عقبات في وجه تشكيل حكومة وحدة وطنية، تبدو أنها أقرب إلينا من حبل الوريد، في ما ولادتها، في الواقع، أعسر من خروج طفل ميت من رحم أمه. لكن صهر الجنرال الذي يتابع المفاوضات مع الرئيس المكلف سعد الحريري، أثناء سفر عمه، يخرج في البرنامج الساخر الذي يستقرئ المستقبل، حاملا ساعة كبيرة، ويقول إن عون زوده بها، كي يتسلى في غيابه، لأن وقتا طويلا سيمر قبل أن يحصل الاتفاق على الحكومة العتيدة.

المشكلة ليست فقط في 14 آذار التي يفترض أنها أكثرية، ثم يبدو وكأنها هي نفسها ليست متأكدة من ذلك. المشكلة ليست أيضا في فريق 8 آذار الذي يتصرف وكأن ميشال عون يغرد منفردا خارج سربه، ويحدد مطالبه وشروطه. الأزمة في أن المشهد برمته عارم الفوضوية. المواد الدستورية تحتاج تعديلات جدية، حيث إن الخلافات حول ما هو دستوري أو غير دستوري باتت سمة المرحلة. أبطال المسرح السياسي أنفسهم، يقولون أشياء متناقضة، ويتعثرون في بناء خطاب منسجم البنية. ميشال عون الذي وصل لبنان من منفاه الباريسي علمانيا مغتسلا بمبادئ الثورة الفرنسية صار أشرس المدافعين عن حقوق المسيحيين «المهدرة» في وجه الطوائف الأخرى. نبيه بري الذي تكفل رجاله بغالبية الأعمال القبيحة في «غزوة بيروت» في 7 مايو (أيار)، طوّبه كل الأفرقاء «موالاة ومعارضة» رمزا للود اللبناني المفقود حين يتجسد في صورة رجل، وعاد مظفرا على رأس مجلس النواب. وليد جنبلاط في لعبة القفز من منطقة إلى أخرى، ليس حالة غرائبية. مشكلة الرجل أنه يفعل بيوم ما يحتاج الآخرون لفعله شهورا، لكن النتيجة واحدة. ميشال المر، رجل سورية يوم كانت على الأراضي اللبنانية، والوزير الذي ائتمنته على انتخابات كانت ترسمها بالمسطرة، تبرأ منها وابتعد كالمشمئز، ثم أعلن أنه وسطي، لنجده منذ أيام مجتمعا مع كتلة 14 آذار النيابية في قريطم، وكأنه أحد أعضائها الخلّص. نجيب ميقاتي، والنائب المحسوب عليه أحمد كرامي (أحد رجالات سورية المخلصين سابقا)، لم يحضرا الاجتماع الكبير الذي أرادت منه 14 آذار عرض عضلاتها في وجه الأقلية العاصية والمتمردة، مع أن ميقاتي خاض الانتخابات متحالفا مع 14 آذار. أمر أثار نواب المستقبل وعلى رأسهم أحمد فتفت الذي قال: إن ميقاتي يظهر ذاته خارج الاصطفاف السياسي. ومتسائلا إن كان «الاصطفاف جائزا في الانتخابات وغير جائز خارج الانتخابات». وليد جنبلاط لا يبدو نشازا في المشهد السياسي اللبناني العبثي إلا لقدرته على القفز السريع من موقع إلى آخر. وبالتالي فليس تغيير التحالفات هو المستهجن وإنما الجرأة على إعلانها من دون طويل مقدمات.

أحدث المفاجآت تجلت في إعلان ميقاتي قربه من وسطية جنبلاط. هنا لا بد من سؤال عبثي يتلاءم والسوريالية التي نعيشها. هل الأكثرية النيابية اللبنانية لا تزال قادرة على الصمود كفريق واحد، أم أن ثمة من ينتظر تشكيل الحكومة ليعلن طلاقه النهائي، وانفصاله الكامل عن 14 آذار؟ وفي حال تشكلت الحكومة كما يفترض واحتسبت حصة جنبلاط ضمن فريق 14 آذار، فهل تصبح الأزمة داخل الفريق الواحد الذي ينذر وضعه بالتصدع؟ بكلام آخر هل يضم فريق 14 آذار اليوم جناحين أحدهما وسطي والثاني على يمينه؟ وهذا ما يريدون الإيحاء به. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يصف ميقاتي نفسه بأنه وسطي وخارج 14 آذار، لكنه قريب جدا من طروحات جنبلاط الجديدة حتى كاد يقول: «إنهما معا في موقع واحد». الأخبار الآتية من سورية تقول إن خطوة جنبلاط بالتمايز عن 14 آذار لم تقابل بالحماسة التي كان يتمناها في دمشق، مما دفع به إلى المراوحة في انتظار تطور ما. وميشال المر بدوره لا تستغرب منه النقلات السريعة والمفاجئة في حال وجد مصلحته في ذلك، وإن كان الآن مرابطا في خانة رئيس الجمهورية. أما ميقاتي فلم يكن هواه يوما أقرب إلى 14 آذار منه إلى المعارضة باستثناء ما أدلى به أثناء حملته الانتخابية. وباحتساب أصوات هؤلاء ونوابهم لا سيما كتلة جنبلاط، يحق لنا أن نسأل ما دور الوسطيين في الأيام اللبنانية المقبلة، وعلى من سيقلبون الطاولة؟