من مقدمة ابن خلدون إلى مؤخرة «القاعدة»!

TT

الإرهاب على مستوى «القاعدة».. هذا ما تفتق عنه ذهن الأشقياء بالمنظمة الإرهابية «القاعدة» عندما قرروا حشو أحد العباقرة بلغم لكي يستخدمه في مهمته الانتحارية الأخيرة والتي كان يقصد بها مساعد وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف وباءت بالفشل الذريع. إنه مشهد رمزي بائس لا بد من ربطه مع مشهد المجد القديم لعهد قد أفل حين كانت الأمة قادرة على إفراز العلوم وتصديرها للعالم بأسره، أمة عابرة للحدود وقابلة للحوار والتعايش مقبلة على الغير، أرسلت فكرها ونوابغها للكل وسطعت بدور عالمية مثل الغزالي وابن خلدون وابن رشد وابن سينا والكندي وابن الهيثم وغيرهم ليشكلوا ركائز علوم إنسانية استفادت منها البشرية بأسرها، علوم الطب والفلك والحساب والجبر والهندسة والمعمار والاجتماع.

كانت أمة واثقة مطمئنة وشجاعة تحولت إلى أمة خائفة قلقة من الغير لأنها اعتمدت على فكر مغلق يعتبر كل شيء مختلفا عنها هو عدو متربص به ويرغب في نهش لحمه! صورة تصلح لتخويف الأطفال قبل النوم ولا تصلح لتربية أجيال المستقبل وتأسيسهم بشكل سوي على احترام دينهم وأوطانهم وسائر الملل والنحل والشعوب.

كانت أمة منشغلة بالعلوم والتربية وبالانفتاح على أمم العالم من أقصاه إلى أقصاه، حتى توغل بالتدريج الفكر الظلامي التكفيري وخطف العقول وتحول إلى مرجعية يعتد بها ويؤخذ منها. وليس هناك أبلغ من واقعتين رمزيتين، فيهما دلالتان بالغتا الأهمية، الأولى حين سافر الإمام محمد عبده إلى أوروبا وعاد منبهرا بما شاهده وعلق بكلمته التاريخية قائلا: «لقد رأيت إسلاما بلا مسلمين»، ومن هذا المشهد ننتقل إلى واقعة عودة سيد قطب من الولايات المتحدة الأمريكية والبدء في إطلاقه فكرة تكفير المجتمعات وحمايتها من الغرب وتقوقعها بالتطرف والحدة والانعزال. كانت أمة تنشغل بسقيا العقول بالعلوم وتزكيتها ثم تحولت إلى أمه تنشغل بحشو العقول والحشو بالسموم والمتفجرات. ليست العملية الأخيرة لتنظيم القاعدة شهادة في حقه على الإبداع والفكر الخلاق وتجديد الأفكار بل هي دلالة على قنوط ويأس شديدين لفرقة مارقة لم تعرف سوى الدم لغة.

وبالرغم من كل ذلك السقوط المدوي إلا أن هناك من يبرر ويجد الأعذار لـ«القاعدة» والمنتمين إليها، وهناك من يحاول تفسير المواقف وتأويلها بصورة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها شيطانية بحتة. «القاعدة» (أو هكذا تعرف) وكل المجاميع الشبيهة بها شربوا من ذات النبع، وترعرعوا على نفس الفكر وهو في الختام سرطان لا بد من استئصاله، واستئصاله لن يكون بحبوب الأسبرين المخففة للألم بل بكيماوي حارق مدمر للخلايا السرطانية بشكل كامل.

من الأندلس إلى تورا بورا يا قلبي لا تحزن، ومن مقدمة ابن خلدون إلى مؤخرة «القاعدة» يا ليل ما أطولك.

[email protected]