اكتفوا بمجلس إدارة.. وريّحونا

TT

بعد أن دخل تكليف رئيس الأكثرية البرلمانية في لبنان، النائب سعد الحريري، تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة شهره الثالث، لم تعد العقد الظاهرة والخفية أمام تشكيلها مجرد لعبة ديمقراطية عادية تروي تطوراتها، وإن بمرارة، صحف لبنان وإعلامه، بل، وعلى قاعدة «شر البلية ما يضحك»، مهزلة مضحكة مبكية في آن واحد.

أقطاب الحل والربط في لبنان يريدون أن يقنعونا بأن كيانا جغرافيا تقل مساحته عن مساحة مقاطعة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا الأميركية، ولا يتجاوز عدد المقيمين فيه سكان مدينة لوس أنجلوس وحدها، يحتاج إلى «حكومة» لتسيير شؤونه فيما لا تحتاج مدينة لوس أنجلوس إلى أكثر من عمدة منتخب لإدارة أمورها الأكثر تعقيدا من شؤون لبنان الداخلية.

في أيامها الأولى، وصف بروز عقد في وجه تشكيل الحكومة اللبنانية، رغم وجود أكثرية محسوبة وأقلية معروفة، بأنه أزمة حكم.

في شهرها الثاني بدأ البعض يردد بأنها تتجاوز أزمة الحكم إلى أزمة النظام.

بالنسبة للبناني العادي المغلوب على أمره قد تكون بعضا من هذا وبعضا من ذاك. ولكن استمرارها لشهر ثالث يوحي بأنها تتحول إلى أزمة كيان أيضا.. وتحديدا كيان جغرافي لم يتوصل أبناؤه، بعد تسعة عقود من وجوده، إلى الاتفاق على الأساسيات التي تشكل الأوطان في عالم اليوم.

رحم الله ذلك القطب السياسي الكبير الذي شبّه لبنان (في الخمسينات من القرن الماضي) بالخيمة المنصوبة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط والتي تستظلها أقليات إثنية ومذهبية لجأت إليها هربا من الاضطهاد في أرض الآباء والأجداد.

ولكن مشكلتنا مع «لبنان الخيمة» أن عقدة الاضطهاد طغت على حياته الاجتماعية وذهنية الأقليات طبعت مسيرته السياسية، فحال تداخل العاملين، وتصادمهما معظم الأحيان، دون نشوء المجتمع المدني وقيام الدولة القادرة والعادلة، فظل «لبنان ـ الخيمة» مشروع دولة.. مع وقف التنفيذ.

وقد يكون اكتشاف الطبقة السياسية اللبنانية لمكاسبها «الزعاماتية» في ظل هذا الواقع أحد الدوافع الأساسية لعدم بروز تيار سياسي حضاري يقدم المؤسسة على الطائفة أو العائلة أو حتى «الوطن» في شعاراته الرومانسية، فلا غرابة، في ظل استمرار هذا التشرذم الاجتماعي ـ السياسي واستمرار غياب الدولة القادرة، أن تصبح الطبقة السياسية الحاكمة والمتطلعة للحكم أقوى من مؤسسة الدولة. وهذا الواقع لم تقصر الطبقة السياسية اللبنانية في تأكيده، وبإصرار مذهل، في عملية تعطيل تشكيل الحكومات اللبنانية.

دخول أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية شهرها الثالث يشكل، بحد ذاته، إشهار إفلاس للدولة، فلا هي استقوت بما فيه الكفاية لاحتواء لعبة الزعامات المذهبية، ولا استطاعت هذه الزعامات، حتى الآن، تجاوز تبعات الحرب الأهلية اللبنانية.

ما يجري عمليا على الساحة السياسية ليس أكثر من مواصلة الحرب الأهلية اللبنانية.. ولكن بوسائل أخرى، ودون شعور «المتحاربين» بأن الخاسر الوحيد من الصراع المحتدم على الكراسي الوزارية ليس هذا القطب السياسي أو ذاك، بل لبنان الدولة.

حبذا لو تحل الواقعية محل «التشاطر» في إدارة «لبنان ـ الخيمة» ويعدل دستوره، بحيث يبقى رئيس البلاد، وحده، المسؤول السياسي المنتخب مباشرة من اللبنانيين، على أن يعطى صلاحية تشكيل «مجلس إدارة» من الأخصائيين، لا السياسيين، لإدارة الشؤون الحياتية الأساسية للبنانيين والإشراف على حسن تنفيذها (الأمن والكهرباء والأشغال العامة والصحة والمياه..) فيوفر على اللبنانيين مناورات توزير الطوائف والمذاهب والأقارب والأصهار انطلاقا من قاعدة اعتماد الخبرة والاختصاص في ملء المناصب «الإدارية» البديلة للمناصب «الوزارية» البراقة.

ولكن هل يعقل أن يطلب من المستفيدين من غياب الدولة التفريط بمكاسبهم من غيابها؟