سورية والعراق وصراعات المرحلة الجديدة

TT

تشتد الجدالات بين الحكومتين السورية والعراقية بشأن تفجيرات يوم الأربعاء الأسود ببغداد وغيرها. وقبل يومين أعلنت وزارة الداخلية العراقية أن عدد قتلى الانفجارات خلال شهر أغسطس بلغت 450 قتيلا، وأكثر من ألف جريح. العراقيون يقولون ـ أو يقول أنصار المالكي منهم ـ إن 90% من «الإرهابيين» الذين دخلوا إلى العراق في السنوات الماضية أتوا من سورية. ويرد الرئيس الأسد غاضبا، بأن ذلك ليس صحيحا؛ ويطلب إرسال وفد مزود بوثائق وبراهين لكي ينظر في الأمر. ويمضي قائلا إن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة العراقية مع الاتهام جزافا وبدون دليل، هي طريقة غير أخلاقية! فلماذا تقتل سورية العراقيين، وعلى أراضيها منهم اليوم نحو مليون ومائتي ألف عراقي آوتهم حين هربوا من العنف والتهجير؟! ويذهب المتحدثون باسم وزارة الداخلية في العراق إلى أن بالسجون العراقية نحو ألف ممن أَدلوا باعترافات أنهم جاءوا من سورية من أجل التفجير والقتل بالعراق منذ عام 2004 وحتى اليوم!.

والواقع أن الموقف اليوم بين العراق وسورية يشبه ما كان يحدث في السبعينات والثمانينات بين البلدين أثناء حكم حزب البعث فيهما. فقد كانت العلاقات متوترة بشكل شبه دائم، وكان كل طرف يتهم الآخر بأنه يدبر تفجيرات واغتيالات على أرضه. بيد أن العراق كان وقتها الأعلى صوتا في اتهام سورية. وفي فترة ثوران الإخوان المسلمين على حكم الرئيس الأسد (1977 ـ 1983)، كان السوريون يقولون إن الإخوان يتدربون بالأردن والعراق، ثم يأتون للقيام بأعمال إرهابية في سورية!.

لكن بغض النظر عمّا يقوله كل طرف الآن عن الآخر؛ فالواقع أنه بين عامين 2004 و2007، بل قبل ذلك، تجمع بسورية آلاف الشبان العرب الذين يريدون الجهاد بالعراق. وكان توافدهم قد بدأ قبل الغزو الأميركي؛ إذ كان كثيرون يريدون المشاركة في الدفاع عن العراق عندما تغزوه الولايات المتحدة. وإذا كان الأمر غير مقصود أو مخطط له قبل الغزو؛ فإنه صار عالي الوتيرة وهادفا بعد الغزو. وقد بلغ ذروة عالية من العنف في سنتي عمل أبي مصعب الزرقاوي هناك، وليس معروفا بدقة من أين دخل، من الأردن أم من سورية؛ فهو أردني في الأصل من مدينة الزرقاء بشرق الأردن. وليس معروفا أيضا هل كان قاعديا عندما دخل إلى العراق، أم أنه أعلن انتماءه ـ كما يُرجَّح ـ فيما بعد. وعلى أي حال؛ فالمعروف أن أعوان الزرقاوي في البداية جاءوا جميعا من سورية، وكذلك التمويل والإمداد. ثم صارت للرجل جذور في العراق نفسه، وصار أكثر مقاتليه من هناك. وفي تلك الحقبة بالذات، منذ عام 2005، ظهرت عدة تنظيمات مقاتلة ضد الأميركيين، ومنها التنظيم الذي يقوده محمد يونس الأحمد البعثي العراقي المقيم بدمشق. والأحمد كان قد انشق عام 2006 عن التنظيم المركزي للحزب الذي يقوده منذ الغزو عزت الدوري، النائب لصدام أيام حكمه. وفي عودة للقادمين من سورية ومن غيرها؛ فإنه في عام 2006 تفاقمت الهجمات والتفجيرات ضد الأحياء الشيعية ببغداد. وردت جماعات تابعة للمجلس الأعلى ومقتدى الصدر بهجمات كبيرة ضد السنة ببغداد والموصل. ووصل الطرفان إلى حافة الحرب الأهلية، لكن الزرقاوي قتل في عملية أميركية عام 2007، وقد خلفه عدة أمراء أقاموا «دولة العراق الإسلامية» ؛ لكن هجمات القاعدة انخفضت كثيرا بعد مقتل الزرقاوي؛ وبخاصة بعد أن أقام القائد العسكري الأميركي باتريوس «تنظيمات» الصحوات في المحافظات السنية وفي طبيعتها محافظة الأنبار؛ حيث صارت العشائر السنية هي التي تقاتل «القاعدة» المتغلغلة بالمحافظة.

وطوال السنوات، بين 2004 و2008، كان الأميركيون هم الأعلى صوتا في استنكار الخطوات السورية على الحدود بين البلدين، وإرسال المقاتلين والانتحاريين من جانب المخابرات السورية إلى العراق.

فقد كان هناك مندوبون أميركيون بدمشق من العاملين مع جورج ميتشل مبعوث أوباما لعملية السلام. ثم وصلها وفد عسكري أميركي قيل إنه قَدِمَ لتوقيع اتفاق أمني. وخلال وجود الوفد العسكري والآخر السياسي؛ وصل المالكي إلى سورية، وعقد اتفاقيات للتعاون الاستراتيجي؛ لكنه طالب أيضا بتسليم بعض المطلوبين. وبعد عودته بيوم حدثت تفجيرات بغداد الضخمة، ومضى الأسد إلى طهران، وتحدث عن تحالف رباعي يمكن أن يقوم بين سورية وإيران وتركيا والعراق (!) أي مثل «اتفاق السنتو» أو حلف بغداد عام 1955. فقد انعقد وفيه سائر الأطراف باستثناء سورية؛ وسعى لضم سورية ولبنان إليه؛ وذلك بحجة مكافحة الشيوعية. ووقفت مصر ضد الحلف بعنف، وبدلا من انضمام سورية إليه، انضمت لمصر بالتوحد معها عام 1958. أما في لبنان فقد نظمت الجمهورية العربية المتحدة تمردا على الرئيس شمعون، لمنعه من دخول الحلف، وانتهى الأمر بالتحالف بين الشهابية ومصر حتى ما بعد عام 1967، رغم انفكاك الوحدة بين مصر وسورية عام 1961.

ماذا جرى في دمشق قبل ذهاب الأسد لطهران، وعودة المالكي إلى العراق؟ ليس هناك شيء واضح. إنما غادر المندوبون والعسكريون الأميركيون دمشق بصمت دونما اتفاق أمني، وما توفق الأسد في زيارته لطهران؛ إذ بدا عرض التحالُف نوعا من ذر الرماد في العيون. فتركيا الداخلة في الأطلسي لا يُتصور أن تتحالف مع طهران الآن. كما أن العلاقات بين طهران ودمشق ما عادت كما كانت. وعلى أي حال، وبعد التفجيرات البغدادية الهائلة بثلاثة أيام، خرج التلفزيون العراقي بمقابلة مع رجل قال إنه تلقى تعليمات من محمد يونس الأحمد المقيم في دمشق للتفجير ببغداد. وبعدها خرج المالكي ووزير الخارجية زيباري ليقولا إنهما يريدان الطلب من مجلس الأمن إقامة محكمة دولية لمحاكمة المسؤولين عن أحداث الأربعاء الأسود! وصرح المالكي وغيره بأنهم يطلبون من دمشق منذ سنوات تسليم عراقيين مقيمين عندها لمحاكمتهم بتهمة تنظيم عمليات التفجير والقتل بالمدن العراقية.

والذي حدث بعد ذلك وصول وزيري خارجية إيران وتركيا إلى البلدين للتوسط بينهما. وحركة كل منهما مختلفة عن الآخر. أما الإيراني فقد جاء أولا إلى العراق (إشارةً إلى ميله إليه) ثم مضى إلى سورية. وما عُرف شيء عن اقتراحاته لحل الأزمة. وأما التركي فقد جاء أولا إلى دمشق ثم مضى إلى العراق، وأعلن عن أحد ثلاثة خيارات لحلّ الأزمة. وكل الخيارات تضع على العراق مسؤولية تقديم الأدلة والبراهين على ما يتّهم به سورية! وهو أمر يقول العراقيون إنهم فعلوه، بإرسال براهين قاطعة معه إلى السوريين.

وهنا لا بد من إضافة بعض التفاصيل. فالتفجيرات الأخيرة جرت في المناطق الشيعية والكردية وعليها. والذي كان يحدث من قبل أنه عندما يحصل التفجير يسارع المسؤولون لإعلان مسؤولية «القاعدة»، ويعمد البعض من المجلس الأعلى (قوات بدر) أو قوات الصدر، لمهاجمة مناطق سنية. لكن في الأسابيع التالية لخروج الأميركيين من المدن العراقية؛ فإن الهجمات التي تكثفت ضد المناطق الشيعية، هي التي دفعتهم لمهاجمة المناطق السنية، ثم إنهم بدأوا يتهمون دمشق علنا؛ في حين شكا سنة عراقيون من أن طهران هي الوحيدة القادرة ـ إلى جانب الأميركيين ـ على التفجير في سائر أنحاء العراق! والطريف أيضا وأيضا أن الأسبوع الماضي شهد قيام تحالف شيعي كمقدمة للانتخابات، دعمته طهران، دون أن يدخله حزب الدعوة الذي يتزعمُهُ المالكي رغم مفاوضاتٍ استمرت عدة أَشهر. والمالكي يريد ـ كما صرح ـ جبهة أوسع تضم الأكراد والسنة العرب (العشائر)، ولا يكونُ فيها خصومُهُ من الصدريين، وفريق المنشق عنه رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري. وصحيح أن الأميركيين يبدون أقرب للمالكي؛ لكن الإيرانيين لا يُبدون انزعاجا منه، وقد زارهم أخيرا ربما لإقناعهم بوجهة نظره في التحالف الانتخابي، وفي التصدي لسورية.

وفي النهاية، صحيح أن سورية مسؤولة عن عدد كبير من الهجمات بالعراق حتى عام 2008، وبشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. وصحيح أنها دربت أُصوليين إسلاميين وبعثيين.. بل إنها خلال تجاذب مع الولايات المتحدة أرسلت متطرفين وانتحاريين إلى لبنان والأردن. لكنْ لا يبدو الآن – وهي مقبلة على التفاوُض مع الولاية المتحدة والغرب ـ أنّ لها مصلحة في المشاركة في «الإرهاب»؛ رغم إنذارها لبنان أخيرا بإمكان حدوث أحداث أمنية على أرضه إن لم يطعها كالسابق!. ولا يبدو مرجَّحا الآن أن يذهب العراق لمجلس الأمن ما دام الأميركيون والفرنسيون ما نفضوا أيديهم من إمكان «تحوُّل» الأسد باتجاههم. ومن جهة أُخرى لماذا شرب العراقيون هذه المرة حليب السباع، واتهموا سورية؟ هل بدفع من طهران لإرعاب الأسد وإيقاف تحوله الغربي؟ أم أن السلطة السورية منقسمة على نفسها، وفيها الحرس القديم الذي يؤيد استمرار العلاقة مع طهران كما تبدو، أشارت لذلك في التعامُل المتناقض والمتفاوت مع لبنان أخيرا؟! الواقع أن الطرف الوحيد المسرور من مجريات الأُمور ـ فيما يبدو ـ هو الطرف الأميركي، أما الأطراف الأُخرى وبينها التركي والإيراني والفرنسي والسوري والعراقي؛ فهي جميعا مرتبكة؛ في حين يلوذُ حزبُ الله اللبناني بصمت ثقيل!