هاجس التاريخ

TT

كانت 23 يوليو أول ثورة انقلابية في العالم العربي. ومثل جميع الثورات، حاولت أن تلغي التاريخ الذي سبقها. لكن ذلك اقتصر على التاريخ الحديث أو المعاصر، لأن كثافة التاريخ المصري عبر آلاف السنين، لا يمحوها شيء. ولأن الآثار المصرية الصامتة تملأ الدنيا كلاما. لكن الثورات الانقلابية التي تبعتها، أو قلدتها، تصرفت وكأن كل ما قبلها «بائد» لم يوجد. ففي العراق لم يعد هناك ذكر لأي شيء. فقط في المرحلة الأخيرة، ومن أجل شخصه لا من أجل التاريخ، أعاد صدام حسين بناء بابل وأحيا مهرجان المربد لكي تلقى القصائد في مديحه. وألغت الثورة الليبية، في ظل حكم الشعب، شراكة طويلة مع التاريخ المصري والتاريخ العربي والتاريخ التونسي والتاريخ الروماني والتاريخ اليوناني، واكتفت بإنجازات اللجان.

أعاد مسلسل «فاروق» في رمضان الماضي، شيئا من فكرة التاريخ في العالم العربي، بصرف النظر عما إذا كان قد ردًّ الاعتبار لآخر ملوك مصر أم لا. ففي الوقت الذي عمت العالم موجة من إحياء الشخصيات التاريخية، دفن العالم العربي تاريخه. وظهرت في هوليوود والغرب أفلام ضخمة تروي، بالسوء أو بالتقدير، سيرة عشرات الشخصيات الكبرى. وأنشئت في التلفزيونات العالمية قنوات خاصة للبرامج الوثائقية والتاريخ اجتذبت ملايين المشاهدين.

كان الأستاذ محمد حسنين هيكل، أشهر منظري ثورة 23 يوليو، يردد أمامنا انه ينوي وضع كتاب عن محمد علي ربما لوضع بعض الأمور في نصابها، ولا ندري ما الذي حصل. وروى طبيب صدام حسين الخاص انه رآه مرة يبدأ مشروع كتاب لإعادة الاعتبار إلى نوري السعيد، لكن الرجل واجه نهاية مشابهة قبل أن ينهي ذلك المشروع. وكان قبل سنوات طويلة من سقوطه قد بدأ بإعادة شيء من الاعتبار إلى الملكية، ربما بسبب العلاقة الشخصية مع الملك حسين. وربما بشعور من ندم.

أعادت المسلسلات الرمضانية فكرة العلاقة مع التاريخ، خصوصا من خلال أعمال مسهبة وجدية وموضوعية، كالتي وضعها الدكتور وليد سيف، الذي أبحر خصوصا في تاريخ الأندلس. لكن مسلسل «فاروق» اجتذب عددا هائلا من المشاهدين بسبب العلاقة الحديثة بالتاريخ، ولأن الاسم لا يزال حيا في الذاكرة بصورة عامة، بالإضافة إلى سخاء الإنتاج ومستوى الإخراج.

للتاريخ قوة هائلة يحاول القادمون الجدد إبعادها من الطريق. في فرنسا الثورة حاول روبسبير محو المجتمع كله للبدء من جديد، وهكذا حاول بول بوت في كمبوديا سبعينات القرن الماضي. الأول وضع روزنامة جديدة وأسماء جديدة للأشهر والثاني عاد إلى السنة صفر. ولم يكن ماوتسي تونغ يتخطى تقليداً إمبراطورياً قديماً في الصين عندما أرسل الحراس الحمر في أنحاء البلاد يحطمون جميع علامات الماضي من الكتب إلى صحون البورسلين إلى المعابد والتماثيل ويقتلون الأساتذة والكتاب والكهنة وكل من يمكن اتهامه بالمحافظة على «الروح الرجعية»، ولولا تدخل شو ان لاي لدمروا «المدينة المحرمة».