إيران في لغتها

TT

كنت ذات مرة، في طهران، أتمرن على استعمال اللغة الفارسية، أركّب جملا مفيدة وغير مفيدة، فنبهني صاحبي إلى أن اللغة الفارسية ليست سهلة بالصورة التي يتكلم عنها العرب بسبب ما يتصورونه من كثرة المفردات العربية فيها، فالمفردة العربية داخل الفارسية تفقد قليلا أو كثيرا من ذاتيتها الدلالية، وتستقر على نصاب مختلف. وأضاف صاحبي أن الفارسية بالنسبة إلى غير أهلها هي كالفارسي في غير أهله، لا تصل بالسرعة المعتادة، ومن الصعب توقع نهاياتها حتى القريبة، ولا بد من انتظار اكتمال النص حتى يُفهم؛ إن فُهم. وهي لغة تتقن الحجب والتبطين ببنيتها النحوية المختلفة عن بنية اللغات المعروفة، فالجملة فيها تبدأ بالأقل أهمية، أي تبدأ بالفضلة وتنتهي بالعُمدة، وتحيرك. وقرأنا معا نصا مؤلفا من 32 مفردة، كانت المفردة الأولى مبتدأ، تشعر كأنه وضع جانبا ليبدأ النص من مكان آخر، وبعد طول صبر يأتيك الخبر جملة فعلية في المفردتين 31 و32. وإلى أن تفهم يكون نفسك قد انقطع، وصبرك قد شارف على النفاد، إذا ما تورطت في توقع نهاية دلالية للنص متعجلا اعتراك الندم، لأنك ذهبت إلى مكان احتمالي والنص ذاهب إلى مكان آخر.. وهكذا يكون بإمكان المتكلم أن يلعب معك أو عليك من دون سوء نية، ولا تلومن إلا نفسك على قلة صبرك وغفلتك.

وتشعب الحديث، وأدلى صاحبي بملاحظة كان من شأنها أن تجنبني التباسات وقعت في مثلها سابقا، ولكني لم أتعلم.. قال صاحبي: إن اللغة الفارسية لغة مداورة، فهي عندما تعتني بك وتريد أن تكرمك، هي أو صاحبها، أو هي وصاحبها، لأنهما واحد في النهاية، فإنها تأخذ من حسابك قليلا أو كثيرا وتعطيك. فمن عادة الإيراني إذا ما أحبك، إذا ما أحب، وهو يحب بمقدار ويكره بمقدار ويدقق في حساب الحب والكره، فإذا ما أحبك أو أحببته ورغب أن تراه ثانية أو يراك قال لك: «أحب أن أزورك».. وكنت وقتها، في بداية الثورة، زائرا عابرا وليس لي في قم مكان أستقبل فيه الزوار، فاعتذرت، فابتسم الشيخ حسين منتظري وقال: «أزوركم هنا في هذه الغرفة ـ من منزله طبعا»، وذكرت ذلك لأصحابي العرب المجربين فقالوا: «إن ذلك يومي في حياتنا مع الإيرانيين».. وهكذا تتقن اللغة الفارسية، أو يتقن الفارسي الالتفاف على المعنى تحسينا أو تقبيحا وتندهش أنت.. يقول الفارسي لصديقه: كنا في مجلس وذُكرتم بالخير، وأنا دافعت عنكم بشدة.. ويعطي الفارسي قيمة كبيرة للسعي والكسب فيقول: «أشحذ حتى لا تحتاج الناس». وتشعر اللغة الفارسية بشيء من الفقر في المفردات، ولكنها تتدبر أمرها فتعتمد الأفعال المركبة ـ ستين بالمائة ـ وهنا تبلغ حيرتك وضياعك مداهما، إلا أن تتزوج من سيدة إيرانية وتتعود على فهم أسرار لغتها من سرها الذي لا ينكشف، وقد تخسر نفسك!

إذن ماذا تفعل؟ وأنت آت من أصل صحراوي يقوم على المباشرة والمكاشفة وعلى لغة تسقط إذا ما طالت المسافة في جملتها بين الموصوف والصفة أو بين الضمير ومرجعه.. ويجوز فيها الإعراب على المجاورة فتقول: (جُحر ضبٍ خربٍ) مثلا، لقد كان العربي يضيف جاره إلى أهله فيكون للجار ما للأهل وعليه ما عليهم.. بينما الجار في الفارسية هو «همسايه» أي شريك الظل لا أكثر، فهل هذا عيب؟ ربما اعتبرته عيبا، أنت حر في ذلك، ولكن من أعطاك الحق في أن تعتبر قيمك عامة، وأن غيرها من القيم ليست قيما؟

إنها اللغة المرآة.. ولكل مرآته، وعلى كل منا أن يرى نفسه في مرآته ثم يذهب إلى الآخر ليراه كما يرى هو ـ الآخر ـ نفسه، حكى لي صديقي اللبناني أنه كان عائدا إلى منزله فمر بجيرانه في الحي المتواضع في قم فدعوه إلى الغداء فشكرهم، وعندما أصر على الاعتذار أصروا على الاستفسار، فقال لهم إن عنده ضيفا، قالها بالفارسية «ميمون دارم» فاندهشوا وأصروا على مرافقته إلى منزله ليتأكدوا من الخبر، واندهش لإصرارهم، وقدم لهم ضيفه فإذا هو عالم جليل، فضحكوا حتى بانت نواجذهم. كان ينبغي للسيد أن يقول: «مهمان دارم» أي ضيف، لأن ميمون معناها القرد، والإمالة تجعل «مهمان» في الدارجة «مهمون» أي قريبة من ميمون، وهنا وقع الضيف والمضيف.

*مفكر وكاتب لبناني عاصر الثورة الإيرانية وشارك في أحداثها منذ بدايتها