ليس كل من قال «سلام عليكم» مسالما

TT

المحاولة الغادرة لاغتيال الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية السعودية لشؤون الأمن، والتعليقات على الحادث (خاصة الزميلين طارق الحميد، والدكتور مأمون فندي)؛ ثم اغتيال الطالبان لوكيل جهاز المخابرات الأفغاني بقنبلة انتحارية أمام مسجد (في شهر رمضان!) راح ضحيتها كثير من المصلين، كانت دوافع لإعادة شرح ما طرحته الشهر الماضي بأنني ضمن أقلية من معلقي بريطانيا نحذر من الانزلاق في هوة التفاوض مع عصابات الإرهاب من سارقي راية الإسلام.

فإمكانية التوصل معهم لاتفاق يضمن سلامة البشر وحريتهم في الاختيار وهمٌ لا يرتقي لمنطق العقل.

فالتفاوض مع القتلة لن يكون هزيمة للديمقراطية والحرية والسلام فحسب، بل خطرا على الإسلام نفسه. فمصافحة أياد مخضبة بدماء ضحايا، أغلبهم من المسلمين، يعني قبولنا ضمنيا بتفسير الجهاديين المغالط للإسلام كدين يبرر سفك الدماء من أجل فرض الشريعة بالقوة، وهي صورة للأسف ترسخت في أذهان الكثيرين نحاول تغييرها لا تأكيدها؛ فبديهيا لا توجد عقيدة سماوية أو روحانية تسمح بالعنف وتبرر إزهاق الأرواح.

ولنفكر مليا في أحداث الأيام الماضية. الأمير محمد يستقبل ضيوفا اعتقدوا، كمسلمين، أنهم آمنون في مجلسه، وبدوره كمسلم أمن لمن جاءه يعلن التوبة ويدير ظهره للضلال. «جهاديا» ترك طريق الضلال الذي يضرب فيه بنات الناس للتنقب أو التحجب والإضرار بالآخرين، واتجه لطريق السلام (والسلام أحد أسماء الله)؛ فيستقبله الأمير بحسن نية؛ أولم يقل عند دخوله المجلس «السلام عليكم»؟

يعني أنه كذب على نفسه وعلى الله وعلى الآخرين؟

وقد مر بتجربة مشابهة الزميل فرانك غاردنر، مراسل شؤون الأمن في الـ«بي.بي.سي»، أثناء تصويره في الرياض قبل سنوات ـ والرجل عاش في الخليج صديقا للعرب ولا أذكر له تقريرا واحدا سلبيا عن المسلمين ـ وإذا برجلين يلقيان عليه السلام، وبعد أن ائتمنهما أمطراه بوابل من الرصاص.

قتل زميله المصور فترملت زوجته ويتمت طفلته، وبذل الأطباء السعوديون جهودهم فأخرجوا من جسم غاردنر ما استطاعوا من رصاصات، منقذين حياته، بينما استقرت أخريات في حبله الشوكي لتصيبه بشلل نصفي مستديم.

وبعد خمس سنوات لا يزال غاردنر، في كرسيه المعجل، يتساءل مذهولا: «قالا لنا السلام عليكم، فأمنت لهما.. كيف يلقي مسلم عليك بالسلام ثم يغدر بك؟»

الرجل الذي درس الإسلام بعمق يجد عقله غير قادر على استيعاب هذا التناقض.

وربما يكون قاتل مصور الـ«بي.بي.سي»، ومهاجم مجلس الأمير محمد، والانتحاري الذي قتل نفسه وعشرات المصلين ليغتال وكيل مخابرات أفغانستان، مسلوبي العقل والإرادة تحت تأثير مخدر أو تنويم مغناطيسي أو أيديولوجية شريرة أوحوا بها لأنفسهم (والإيحاء ثابت علميا في السيكولوجيا، حيث يسير البعض حافيا على الجمر دون أن يشعر بالحروق إلا بعد أيام)، فهل يمكن الاطمئنان لهؤلاء أو التفاوض معهم كطرف مساو لأهل الخير ودعاة السلام في العقل والمنطق؟

وإذا كان المرء لا يطمئن لمدمن شراب أو مخدرات أو لغير متزن سيكولوجيا أن يكون راعيا لأطفاله أو أمواله، فكيف نأتمنه على سلامة شعب بأكمله؟

فالأكثر واقعية هي قطع صلته بمن يوفر له مخدر الإرهاب الذهني باسم الجهاد، أو القضاء على تاجر هذا المخدر إذا أمكن.

تاجر المخدرات هو «القاعدة» وشركاؤها أو كاسم رمزي نتصورها كرأس لإخطبوط متعدد الأذرع لا ترتبط به مباشرة كتنظيم تقليدي (كجهاز الاغتيالات السري للإخوان المسلمين؛ أو جهاز الاغتيالات «حنين» في حزب البعث العربي الاشتراكي). أذرع الإخطبوط ليست تنظيما واحدا متصلا بل كجراثيم أمراض متعددة تسبح في ثقافة ملائمة (favourable culture وبالإنجليزية تعني ثقافة أو بيئة خصبة).

ومثل فيلم Matrix وخطه الروائي narrative صراع قوى الخير الإنسانية ضد قوى الشر، وهي آلات استولت على العالم بقيادة كمبيوتر كان صمم للحرب؛ حوّل الآدميين إلى مصدر لطاقة تشغيل المحركات، والبشرية كلها تسبح في أحواض انفرادية في «غيبوبة»، وتذهب طاقة ضربات القلب وكهرباء المخ لتشغيل آلة الشر الكونية.

عقول النائمين تحت سيطرة برامج توهمهم أنهم يذهبون لأعمالهم كل يوم، ويتذوقون طعم ما يتناولونه ويمارسون الحب والعراك ويحسون آلام الضربات داخل البرنامج المعقد الذي يتلاعب بعواطفهم في وهم يشبه الواقع virtual reality.

نفر من الأذكياء هرب من أسر الآلات يقاومون من تحت أنقاض الحضارة الإنسانية بتوصيل ما يبرمجون في كمبيوترهم المستقل لعقول أسرى الأحواض وتدور معركة الخير ضد الشر في العقول وليس ميادين القتال.

و«القاعدة» إذن Matrix وأفكارها من إرهاب وتكفير هي ثقافة بمعناها كبيئة مثل أحواض الغيبوبة والبرامج التي تطورت من سيد قطب حتى أيمن الظواهري، سيطرت على عقول المغيبين فيقتلون أنفسهم والآخرين لمد آلة الشر العالمية بالطاقة.

الدكتور فندي يرى أن «القاعدة» تعيش في بيئة الفضائيات الجهادية، وأضاف الأستاذ الحميد، بصراحة جريئة، مناهج التعليم المتخلفة ودروس ترويج الشر في مساجد المناطق النائية؛ ومن عندي أضيف الصحافة الصفراء التي ينخدع القراء بصدورها من عواصم الديمقراطية ويناضل محرروها كلاميا ضد إسرائيل. فالثالوث: الفضائيات القومجية، ومناهج التعليم، والصحافة الصفراء، هي بيئة Matrix تعيش فيها «القاعدة» والطالبان وأخواتها من عصابات الشر.

سبيل النجاة من المرض المهلك هو تفريغ أحواض الغيبوبة التي تعيش فيها جراثيم «القاعدة» وأشباهها من بيئة الفضائيات الجهادية والصحافة الصفراء، وتعديل مناهج التعليم وإغلاق أماكن تلقين دروس دينية لا نعرف من صمم مناهجها.

أما الانسياق وراء دعوة اليسار (البريطاني والأوروبي) للحوار مع الطالبان فسيفتح فجوة في سد حمايتنا من انسكاب الـ matrix كثقافة تسبح فيها جراثيم الإرهاب.

والتفاوض على ماذا؟

مجاهدو هذه الجماعات في غيبوبة ذهنية بتأثير مخدر فكري أو برمجة وهْم دخول الجنة بالجهاد؛ بالأحزمة الانتحارية؛ والبرمجة نفسها لم تدخل فيها مفردات الديمقراطية أو حق الناس في ارتداء أو قراءة أو مشاهدة ما يختارونه، أو حتى تمثيل أنفسهم برلمانيا.

فالمبرمج أدرك أن في الديمقراطية تجفيفا لأحواض الغيبوبة، وبالتالي يفلت البشر من سيطرته، فوضعها في القطب السلبي (الكفر) أي هدف هجوم البرنامج.

وهناك ليبراليون يرون قتال الطالبان والجهاديين مرحليا، أي حتى اقتناعهم بالعجز عن هزيمتنا (كقوى الخير) وعندئذ نبدأ التفاوض معهم.

المقولة صالحة في حالة نضال قوة شرعية من أجل هدف تُلقي السلاح عند بلوغه (المامو ماو في كينيا؛ والحرب الأهلية الأميركية)، وهو ما لا ينطبق على الطالبان والتكفيريين، خاصة أن ضحاياهم من المسلمين.

والأمر ليس تشاؤما بقدر ما هو واقعية: فالتفاوض مع هؤلاء يعني اغتيال (جسميا ومعنويا وفكريا) ممثلينا لحظة مدهم يد المصافحة، حتى ولو قال الجهاديون «السلام عليكم» مسبقا.