الانتحاري.. والنقش في الحجر

TT

استنتاجات ودروس كثيرة، منها السلبي ومنها ما هو إيجابي، يمكن أن نخرج بها من محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف في السابع والعشرين من أغسطس الماضي. من ناحية، فإن لجوء «القاعدة» وعناصرها إلى أسلوب الاغتيال الفردي، وهي التي كانت تفجر السفارات والمجمعات والأبراج السكنية، يدل على أنها لم تعد «قاعدة» التسعينات وأوائل القرن الحالي، فقد ضعفت إلى درجة لم تعد قادرة فيها على القيام بأعمال «جبارة» أو «مبهرة» مثل التفجيرات الجماعية، وهذه نقطة إيجابية تُحسب لوزارة الداخلية وقوى الأمن السعودية التي استطاعت أن تُحجم «القاعدة» في المملكة، وتقص الكثير من شعر من كان ينظر إلى نفسه على أنه شمشون الجبار. الإشادة واجبة في هذا المجال، فما هو جيد يجب أن يُقال عنه جيد، وترفع له القبعة احتراما، أو هو العقال في حالتنا. اللجوء إلى أسلوب الاغتيال الفردي بشكل عام، وعندما يكون موجها ضد أفراد في المؤسسة السياسية الحاكمة بشكل خاص، هو دليل ضعف وعجز في نهاية المطاف، فهو يعني تحول التنظيم المتبني له من محاولة قلب الأوضاع إلى محاولة الانتقام من أولئك الذين وقفوا حجر عثرة في طريق محاولة قلب الأوضاع، وأصبح التنظيم في وضع يرى فيه أن قلب الأوضاع أصبح بعيد المنال، وبالتالي فإن البديل هو الانتقام عن طريق الاغتيال، وهذه هي القراءة الأولية لمحاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف، وقوائم الاغتيال السابقة لـ«القاعدة»، التي ضمت كتابا ومثقفين وغيرهم.

ولكن ضعف التنظيم، وهو «القاعدة» في السعودية في هذه الحالة، لا يعني أنه اضمحل أو هوى تماما، بل يعني أنه في حالة كمون ومحاولة استعادة قواه، ومحاولات الاغتيال هي محاولات انتقام، بالإضافة إلى أنها إعلان من التنظيم بأنه ما زال صامدا، وقابلا للحياة في أي وقت، وذلك حسب ظروف سترد لاحقا، وذلك مثل جرثومة وباء يُقضى عليه، ولكن الجرثومة لا تلبث أن تعلن عن وجودها في حالات فردية كثيرة، معلنة أنها يمكن أن تتحول إلى وباء إذا ما توفرت ظروف معينة. والسؤال المطروح هنا هو ما هي تلك الظروف والبيئة التي يمكن أن تسمح بعودة «القاعدة»، أو أي أعمال إرهابية إلى الساحة من جديد؟ نعم لقد قُصت واقتلعت الكثير من مخالب «القاعدة» في المملكة وأنيابها، ولم يعد الوحش قادرا على الافتراس كما السابق، ولكنه ما زال حيا، ومن الممكن أن تعود المخالب والأنياب مجددا، فما هي تلك العوامل التي يُمكن لها أن تكون مساعدا في نمو المخالب من جديد؟

نعم لقد نجحت السعودية في تحجيم قوى الإرهاب إلى حد كبير، ولكن كي يمكن القضاء على جرثومته نهائيا، فإنه يجب القضاء على الظروف المساعدة على عودة متكررة له، وهذا يستوجب استراتيجية فكرية متكاملة، وإعادة التفكير في الاستراتيجية الفكرية الحالية التي هي في ظني مسكنات مؤقتة، ولكنها ليست مضادات حيوية فاعلة. الاستراتيجية الأمنية التي أتاحت قصقصة أظافر «القاعدة» ومخالبها يجب أن تكون مترافقة مع استراتيجية أمن فكرية (أمنية فكرية) تؤدي في النهاية إلى القضاء التام على الوحش بعد أن تخور قواه وتنزع مخالبه. الاستراتيجية الفكرية الحالية، وخاصة بعد مفاجأة أحداث سبتمبر، والتي تحل ذكراها الثامنة الجمعة المقبلة، لم تغير الكثير، ولم تصل في نجاحها إلى مستوى الاستراتيجية الأمنية، وذلك لثغرات كثيرة فيها من ناحية، ولأنها لم تحاول أن تحل جذور المشكلة. فأسلوب المناصحة مثلا لا يمكن له أن يكون حلا لمشكلة الفكر المتطرف الذي يشكل البنية التحتية للممارسة الإرهابية، فالمناصحة تقوم على إعادة تشكيل العقل المتطرف، والعقل المتطرف لا يمكن أن يُعاد تشكيله من خلال إقناع خارجي إلا فيما ندر، فالقاعدة المعلومة هي أن العقل المتطرف ينظر بريبة إلى أي محاولة لإعادة تشكيله على أنها محاولة من «الآخر المعادي» على تحويله عن طريق الحق والصراط المستقيم. نعم هنالك الكثير من أصحاب الفكر المتطرف قد خلعوا رداء التطرف، بل والبعض منهم انقلب على مثل هذا النهج، ولكن ذلك كان من خلال صيرورة وتحولات ذاتية لا علاقة لها بنصح أو مناصحة. هذا لا يعني التخلي عن أسلوب الحوار مع حملة الفكر المتطرف، ولا أقول مناصحة من قام بأفعال إرهابية، ولكن على أن يبقى ذلك جزءا من استراتيجية أوسع وأشمل، وليس كل الاستراتيجية. أسلوب المناصحة كحل ثقافي كلي للتعامل مع الإرهاب، والحوار كحل أوحد للتعامل مع الفكر الذي يفرز الإرهاب في النهاية، أو يمهد له الطريق ويعطيه مبرراته العقدية، ليس مجديا كثيرا في النهاية، ما لم يترافق مع إجراءات أخرى.

من هذه الإجراءات أن يكون هنالك مراقبة تامة لما تُحشى به أدمغة صغارنا، ونوعية أولئك الذين يحشون الأدمغة الصغيرة بـ«المعلومة» والتي قد تكون «ملغومة»، وفي الكثير من مؤسساتنا التعليمية هي ملغومة أكثر من كونها معلومة، و«العود على أول ركزة»، كما تقول أمثالنا الشعبية، أو «العلم في الصغر كالنقش في الحجر»، كما يقول المثل المعروف، والذي يمكن تحويره بالقول: « الأدلجة في الصغر كالنقش في الحجر»، دون أن يتغير المعنى، وإن تغير المضمون. فالعقل يتشكل في الصغر، وما يتشكل في الصغر من الصعب أن يتغير في الكبر، ولذلك نجد أن أصحاب الفكر المتطرف، أو أي معتنقي إيديولوجيا كلية، لا يسعون ابتداء إلى مناصب عليا في المؤسسة السياسية مثلا، بقدر سعيهم إلى التحكم في مفاصل العملية التعليمية، التي ستتيح لهم التحكم في الدولة والمجتمع معا، ولا تعود المناصب السياسية العليا بعد ذلك إلا مجرد أحجار على رقعة شطرنجهم في النهاية. من هنا يجب أن يكون هنالك اهتمام بالتعليم الابتدائي خاصة، وتدقيق في مناهج تلك المرحلة، وتمحيص دقيق في من يقومون بالتدريس في تلك المرحلة. فعندما يتلقى العقل الغض «معلومة ملغومة» مثل «إن العالم كفرة إلا نحن»، أو «إن العالم يتآمر علينا»، فإنه من الصعب تغييرها لاحقا، حتى وإن تغير الشخص بعد ذلك، إلا أنها تبقى قابعة في لا وعيه كجزء من بنية أساسية لا يمكن نزعها، ومن الممكن أن تجعل تعامله مع الآخر وفق هذه «الملغومة» حتى وإن لم يكن واعيا بذلك، فقد أصبحت «الكراهية» جزءا من مكونات ذاته وثقافته. الذين قاموا بالعمليات الإرهابية من شبابنا هم عقول تشكلت في مؤسسات لقنتهم «معلومات ـ ملغومات» مليئة بكل ما هو قابل للانفجار. مؤسسات ظاهرها تعليمي تربوي، وباطنها تعتيمي توجيهي، سواء كنا نتحدث عما يجري في المؤسسات التعليمية، وخاصة في مراحل التعليم الأولى، أو تلك المعسكرات الصيفية المشبوهة، أو شطر من مدارس تحفيظ القرآن التي يجري في كثير منها تحفيظ أشياء أخرى غير القرآن، أو هو القرآن ولكن بتفسير لا علاقة له بالتفسير. الشباب الذين قاموا «بغزوة منهاتن»، أو الذين قاموا «بغزوات» الرياض والدمام والخبر وجدة، والفتى الغض الذي فجر نفسه أمام الأمير، كل هؤلاء شكلت عقولهم في مراحل مبكرة، من قبل أصحاب الفكر المتطرف الذين تولوهم وهم عقول غضة، فأصبحوا أداة طيعة للإرهاب وباروناته أصحاب الأهداف بعيدة المدى.. هذا ويتواصل الحديث.