قرأت وقلت وسمعت

TT

جربت اليوم لحظة من اللحظات النادرة في حياة الإنسان، وهي اللحظات التي يعتريه فيها وهج يضيء كل شيء، فلا يعود أي شيء إلى سابق عتمته أو تواريه وراء الظلال. تلك اللحظة صورت لي الحياة كرحلة مسافر على طريق يسلكه وحده، لكنه ليس طريقا خالياً، بل طريق مزدحم بالصور والأصوات والوجوه، زاد المسافر عقله وحواسه وجوال يحمله، لكي يحتفظ فيه بأي شيء يطيب له أن يحمله. وحين تغيب الشمس يضع المسافر حمله وينظر إلى محتويات جواله قبل أن يحمله النوم إلى عالم الأسرار.

يوم أمس نظرت في جوالي قبل أن يغلبني النوم. وجدت أقصوصة من مذكرات الشيخ طنطاوي. وسمعت حواراً دار بيني وبين ابنتي. واسترجعت درساً في الكرم علمني إياه زوجي في نهار الصوم.

قال الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته، إن مسجداً كبيراً في دمشق كان فيه شيخ فاضل له تلميذ فقير يضرب به المثل في عزة النفس.

ذات يوم جاع التلميذ جوعاً شديداً حتى شعر بأنه مشرف على الموت. فبلغ به حد الاضطرار أن برر لنفسه السرقة بمقدار الحاجة. وكان أن دخل بيتا فيه رائحة طعام. وكشف القدر وهم بالتهام بعض الطعام غير مبال بسخونته. ثم ارتد إليه عقله ودينه، فندم وأعاد الطعام إلى القدر ورجع إلى المسجد وجلس في حلقة الدرس. فلما انقضى الدرس وانصرف الناس دخلت المسجد امرأة فكلمت الشيخ بكلام لم يسمعه التلميذ. فلما فرغت التفت الشيخ فلم ير سوى تلميذه فسأله: هل تريد أن تتزوج؟ فرد التلميذ قائلا: وكيف لي أن أتزوج وأنا لا امتلك ثمن الخبز؟ فقال له الشيخ هذه امرأة توفي زوجها وليس لها في الدنيا أنيس ولا جليس وقد ورثت دار زوجها ومعاشه وتريد أن تتزوج على سنة الله ورسوله حتى لا يطمع بها الأشرار. فهل تتزوجها ؟ فقال نعم. وعقد العقد وأخذت المرأة بيد زوجها وقادته إلى البيت فإذا هو البيت الذي كاد أن يسرقه، وإذا بها امرأة ذات شباب وجمال. فبكى وروى لزوجته ما كان من أمره فعفت عنه وقالت له إن ثمرة الأمانة عطاء من الله. لقد أعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال.

في اليوم نفسه جاءتني ابنتي غاضبة لأنها وللمرة الثالثة في أسبوع واحد تعرضت لسرقة أشياء اشترتها من مالها الخاص فسألتني لماذا يفعل الله بي كل هذا وأنا لم أؤذ أحدا؟ فقلت لابنتي إن هناك احتمالا بأن من سرقت أشياءك شعرت باحتياج شديد لها. فلا تحزني على شيء يمكن تعويضه ولا تظني بربك سوءا. لقد شاء أن يثيبك لا أن يؤذيك ولسوف يعطيك ما يرضيك.

في صباح اليوم نفسه طلب مني زوجي أن أعد طعاما لعامل غير مسلم يعمل في حديقة بيتنا. ففعلت على مضض. وقدمت للرجل الطعام ثم قلت لزوجي بغضب إنه وحده يطالب بإطعام العمال وهذا ما لم تجر عليه العادة في البلد الذي نحن به. وليس عليَّ أن اطعم مفطرا وأنا صائمة. فقال لي برفق: عهدتك كريمة النفس. فلا تفسدي كرمك بعطاء يحمل معه مثل هذا الشعور غير الكريم. إذا أعطيت أعطي عطاء غير مشروط.

نمت وقد تأثرت بما قرأت وما قلت وما سمعت.