أدمـها يا الله علينا

TT

كنا مجموعة من الأصحاب وغير الأصحاب مجتمعين في أحد المنازل نـتسامر، ومر الوقت علي ثـقيلا، حيث إن روح الانطلاق والبهجة كانت شبه معدومة في تلك الجلسة، والسبب الرئـيس في ذلك هو وجود أحد الأشخاص وله مكانة اجتماعية مرموقة، ولا يـعرف المزح إطلاقا، وله ولع كبير في احتكار الحديث ولفت الأنـظار، ولا شك أنه كان أكثرنا ثـقافة و(ثـقالة) كذلك.

وبينما كان (يـشرق ويـغرب) في الحديث والمواضيع المتـناقضة، وإذا به يوجه سؤالا للجميع عن ما هي أكثر اللغات انـتشارا في العالم؟!

فمنهم من قال الصينية، ومنهم الإنجليزية، أو الإسبانية.

وقد أعجبني أحدهم عندما قال: إنها لغة الجسد.

وكانت الطامة الكبرى عندما فاجأت الجميع قائلا بـصوت (مصرصع): إنها لغة الحب.

ويـبدو أن إجابتي تلك لم تـعجب على الإطلاق ذلك الرجل المثـقف الجاد المتجهم، لأنه صوب لي نـظرات لا تحمل أي قدر من المودة.

انكمشت في مقعدي صامتا، ورفعت رأسي أتأمل السقف الأبيض الأملس.

وعاد الرجل المثـقف لتسلم دفة الحديث، وأخذ يخاطبنا وكأنه معلم يلقي درسا على تلاميذه وقال: إن لغة «الماندرين» هي الأولى في العالم، حيث يتحدث بها (1.3) مليار صيني، وتأتي بعدها «الهندية والأوردية» إذا اعتبرناهما لغة واحدة، ويستخدمها في الهند وباكستان ما لا يـقل عن (580) مليون إنسان، تليها الإنجليزية (496) مليونا، ثم الإسبانية (425) مليونا، ثم الروسية (279) مليونا، ثم العربية (235).

وبعدها توقف عن الحديث، ليرى تـأثير معلوماته على وجوهنا، فخطر على بالي أن أصفق استحسانا، ولكنني عدلت عن ذلك في آخر لحظة، لأن ذلك المثـقف الذكي سوف (يـفقسني) ويـعرف أن تـصفيقي ما هو إلا نوع من النـفاق.

أما صاحبنا المؤيد للغة الجسد، فقد كان أشجع مني فلم يستسلم، وضرب مثلا حيا هو شاهده في ساحة في مدينة كبيرة، وكيف أن التواصل (الإنساني) حصل بين شخصين مختلـفين دون (كلمة) واحدة.

يـقول: بينما كنت في تلك الساحة في يوم ربـيعي مزهر، وإذا أنـثى طائر تحط على الغصن وتدفع صغيرها دفعا إلى العش فانـصاع الصغير لأوامرها.

ولاحظت أن هناك اثـنين غيري قد شاهدا مثلما شاهدت، الأول كان رجلا آسيويا لا يـقل عمره عن الخامسة والثمانين، وهو لا يـعرف حتى التحدث بالإنجليزية، والآخر طفلة لا يزيد عمرها عن سبعة أعوام، وهي أوروبية بـيضاء، ومن المؤكد أنها لا تـعرف لغة ذلك الآسيوي، لم يكن هناك ما يجمع بين الاثنين إطلاقا، لا السن ولا الثـقافة ولا القومية ولا الجنس، ولا الدين ولا الأسرة ولا اللغة، ولا المعرفة.

ولكنهما عندما شاهدا ذلك الحدث التـفتا إلى بعضهما البعض لا شعوريا، ثم استدارا وراحا يـنظران للشجرة من جديد، ثم نـظرا مرة أخرى إلى بـعضهما وراحا يـضحكان معا.

والآن يحق لي أن أتكلم وأقول: إنها (الإنسانية)، فأدم يا الله علينا لغة الجسد، ومعها إذا أمكن لغة الحب كذلك، حتى لو زعل المثـقف.