صورة الموسم ونهاية العرب!

TT

الصورة التي أتحدث عنها هذا الأسبوع على أنها صورة الموسم، لو جاءت ضمن فيلم سينمائي لقلنا إنها نتاج خيال سينمائي مريض ومتآمر على مستقبل العرب، لكنها صورة واقعية حدثت ولم تحرك ساكنا ولم يتوقف عندها أحد. الصورة التي أتحدث عنها هي صورة تجمع منوشهر متقي وزير خارجية إيران (فارسي)، وأحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا (تركي)، وبينهما وزير خارجية العراق، وقد اجتمعوا ليحلوا مشكلة بين دولتين عربيتين عرفتا ولعقود على أنهما قلب العروبة المنادي بوحدة مصير العرب. الصورة نفسها رأيناها عندما زار وزير خارجية إيران وكذلك وزير خارجية تركيا دمشق للتوسط في المشكلة القائمة بين العراق وسورية. صورة غريبة من عالم النهايات، نهاية القومية العربية، على غرار نهاية التاريخ، وربما بمبالغة قد أدعي أنها صورة تعلن نهاية العرب. أوغلو ومتقي يتوسطان بين سورية والعراق، ولا داعي أن نضيف الوساطة التركية بين إسرائيل وسورية لكي يكتمل الأمر، أو لكي نقول إن الجوار غير العربي هو اللاعب الرئيسي اليوم في مسائل العرب الحساسة. أتمنى ألا تمر علينا الدلالات السياسية الخطيرة لهذه الصورة التي تصدرت الصفحات الأولى للجرائد الأسبوع الفائت مرور الكرام، دلالات تخص مستقبل العرب وشكل العلاقات الإقليمية في المرحلة المقبلة، وكذلك علاقة العرب ببعضهم البعض وعلاقتهم بالجوار غير العربي بما في ذلك إسرائيل.

فما هي هذه الدلالات السياسية؟ وماذا تعني هذه الصورة بالنسبة لمستقبل العرب على المدى المنظور؟ هناك ثلاث دلالات سياسية أساسية لا بد للقائمين على صنع السياسة في العالم العربي التوقف عندها:

أولا: يبدو من الصورة، ومن المشهد العراقي ـ السوري كحالة مصغرة، أن العرب اليوم ليسوا فاعلا سياسيا بل مفعولا بهم في المعادلة الإقليمية، أي إن الجوار غير العربي هو الذي يتحكم في تشكيل مصير العرب اليوم حربا أو سلما، فبالأمس كانت حرب ضروس بين العراق وإيران، واليوم نرى إيران هي المصلح بين العرب في حالة التوتر بين سورية والعراق، وهي (إيران) المخرب في بلاد العرب في حالات دعم الحركات في لبنان وفلسطين والعراق ومصر واليمن، ومع هذا نجد «هتيفة العروبة» بالأمس هم من يروجون اليوم لمقولة أن إيران هي معقل الصمود والتصدي ضد المشروع الغربي من خلال دعمها للمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق. العقل العربي المشوش الذي غفر لإيران جرائم الأمس هو العقل ذاته الذي قد يغفر لإسرائيل في المستقبل جرائمها وربما يروج لها بالحماس نفسه كوسيط بين العرب. فهل من يرمون الناس بالعمالة هم العملاء أصلا؟ هذا سؤال لا يحتاج إلى إجابة وإنما إلى تفكر وتدبر في ماهية العقل السياسي المريض.

العالم العربي اليوم لم يعد لاعبا رئيسا في المنطقة، بل أصبح ساحة للعب. العراق غدا ميدانا للتنافس بين أميركا وإيران وتركيا بينما بقي العرب خارج المعادلة. وما العراق سوى ساحة من العديد من الساحات التي تتصارع فيها الدول غير العربية على مستقبل العالم العربي. لبنان هو الساحة الأخرى لصراع النفوذ الأميركي الإسرائيلي ـ الإيراني ـ التركي، رغم أنه يبدو ظاهريا ساحة من ضمن ساحات المواجهة الأميركية الإيرانية. غزة هي ساحة مواجهة أخرى بين لاعبين غير عربيين هما إسرائيل وإيران، في الوقت الذي ينحسر فيه دور الدولة العربية المحورية في غزة للتفاوض من أجل عسكري واحد اسمه جلعاد شاليط. والتدخل الإيراني ـ التركي اليوم في المصالحة بين سورية والعراق، هو شكل من أشكال هذا النفوذ الجديد. أصبح العرب مجرد دمى في حروب بالوكالة وصراع على النفوذ في الشرق الأوسط بين أميركا وإيران وتركيا وإسرائيل. فلقد أصبحت الأطراف غير العربية اليوم هي التي تحرك خيوط اللعبة في هذه المنطقة.

ولكن هل يكفي أن نردد هذا الكلام أم أن نحاول فهم دلالاته ومغزاه؟

هذا يأخذنا إلى المدلول الثاني، وهو أننا كعرب نعاني من مراهقة سياسية تغريها شهوة الشعارات والعواطف على حساب العقلانية والواقعية. فلم نتوقف عند صورة متقي وأوغلو لأنها صورة تعري زيف شعاراتنا. عندما طرح الشيخ خالد بن أحمد وزير خارجية البحرين فكرة منظومة الأمن الإقليمي التي تضم مع الدول العربية كلا من إسرائيل وإيران وتركيا، تشنج الكثيرون تجاه هذا الطرح باسم الدفاع عن منظومة الأمن العربية وباسم العروبة وباسم الوقوف كجبهة واحدة ضد التطبيع، رغم أن الواقع «المر» يقول بأن إسرائيل وإيران وتركيا هم اللاعبون الرئيسيون في العراق اليوم وفي حل المشكلة بين العراق وسورية، ولهم دور أساسي في تشكيل منظومة الأمن الإقليمي، ومن الأفضل أن يدخل العرب في منظومة أمنية مع هؤلاء اللاعبين الأساسيين لمراعاة مصالحهم، عن أن يبقوا خارج اللعبة تماما. إن ما نتشدق به من شعارات القومية العربية والمصير المشترك لم يكن سوى كلام مفرغ من المضمون، أو ما يسميه العوام بـ«كلام فارغ». لأن دورنا اليوم لا يعكس كلام فضائياتنا الكبير ومقالاتنا العنترية.

ولكن لماذا نعاني كعرب من مراهقة سياسية في التعاطي مع أمور مصيرية بهذا الشكل؟ لدي تفسير بيولوجي للأمر قد يقتنع به من درس علم البيوبوليتيك وهو علم جديد من علوم السياسة درسته على يد البروفسور غلين شوبرت وهو يعتبر المؤسس لهذا العلم. نحن مراهقون في السياسة لأننا لم نبلغ سن الرشد بحكم البيئة التي تحيط بنا، فيظل الابن مراهقا طالما أن هناك أبا متشددا وماسكا بأمور البيت من صغيرها إلى كبيرها، فيكون الأب في الثمانين والابن في الخمسين ومع ذلك يتصرف الابن في هذا العمر المتقدم كمراهق عليه العودة إلى الأب في إدارة شؤون الحياة، ولهذا مقال آخر منفصل ومفصل.

المهم هو أن الصورة التي ضمت الوزير الفارسي والوزير التركي وبينهما وزير خارجية العراق، وقد اجتمعوا ليحلوا مشكلة بين دولتين عربيتين عرفتا ولعقود على أنهما قلب العروبة المنادي بوحدة مصير العرب، هي صورة الموسم، ولو أنها كانت ملصقا دعائيا لفيلم لقلنا بأنه فيلم خبيث يروج لنهاية العرب.