المنطق الخطأ وليس المكان الخطأ!

TT

عشية زيارة الرئيس أوغو شافيز إلى سورية خلال جولته التي تشمل دولا عدة، كتب ماثيو كلارك في صحيفة «كريستيان ساينس مونيترز» ( عدد 3/9/2009) مقالا بعنوان «جولة شافيز لمحور الشر: البحث عن الحب في المكان الخطأ». وتشمل جولة شافيز روسيا، وبيلاروسيا، وسورية، والجزائر، وليبيا، وإيران، ومع أن كاتب المقال يعترف أن هذه الأمكنة قد تكون «الأمكنة الخطأ» من وجهة النظر الأميركية فقط، فإنه ينهي مقاله بتبني التقييم الغربي لرئيس بيلاروسيا، ألكساندر لوكاشنكو، والذي أسماه كاتب المقال «آخر ديكتاتور في أوروبا»، واستشهد على ذلك بقرار منعه من دخول أوروبا والولايات المتحدة، وذلك بسبب تقويضه لقادة المعارضة «ذوي الميول الغربية طبعا» منذ عدة سنوات.

مثل هذا المقال أصبح اليوم يثير ابتسامة فاترة على أوجه القراء في البلدان «الخطأ»، وذلك لأن شعوب هذه البلدان لم تعد رهينة للتقييمات الصادرة عن ممثلي الحكومات الغربية، من سياسيين وإعلاميين معروفين بازدواجية المعايير والقيم والمواقف لديهم، ولم تعد مقتنعة بأن هذه الحكومات تعمل فعلا كما تدّعي من أجل «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، فقد أصبح واضحا بعد أداء الإدارة الأميركية السابقة في العراق وأفغانستان وإلى حد ما باكستان، وبعد ما شهده العالم من تبعية رسمية غربية شاملة لكل ما قررته وارتكبته هذه الإدارة من جرائم حرب وتعذيب وانتهاك لحرية البلدان وحقوق الإنسان، أن هذه الحكومات لا تزال تسخر قواها العسكرية والتقنية والاقتصادية لامتصاص المزيد من ثروات هذه الشعوب تحت أسماء وأعذار مختلفة من محاربة الإرهاب إلى الوقوف في وجه التسلح النووي، إلى نشر الديمقراطية أو الدفاع عن حقوق الإنسان، وأصبح واضحا لشعوب «الأمكنة الخطأ» أن كل شيء له ثمن لدى الحكومات الغربية، وأن الصفقات يمكن أن تعقد لحل أي مسألة بعيدا عن القيم والأخلاق وحتى القوانين المعمول بها في الغرب. كما أصبح واضحا لشعوب هذه البلدان «الخطأ» أن الحكومات الغربية دون استثناء تكيل بمكيالين في معظم المسائل، ولا يرفّ لها جفن أن تدعو إلى شيء وتمارس نقيضه. وأعتقد أن هذا بالضبط ما لامسه رئيس الأركان الأميركي مايك مولن في مقال نشر له في دورية عسكرية تنشر باسم «النشرة ربع السنوية للقوات المشتركة» حين قال: «إنه ليس بإمكان الولايات المتحدة الاعتماد على العبارات اللفظية فقط لبناء الجسور مع العالم الإسلامي، وإن مواصلة سياسة الكلام لن تفيد طالما أن الأفعال لا تبرهن على صحة الأقوال». وتابع مولن «إذا شئنا وضع المعادلة باختصار، فإن علينا أن نهتم بقدر أقل بالحديث عن أفعالنا وأن نهتم بقدر أكبر بترك أفعالنا تتحدث عن نفسها». وعبر الأدميرال مولن عن قلقه من الاتجاه نحو «استحداث هيئات حكومية تهدف إلى تحسين صورة أميركا في العالم» قائلا: «إن ذلك مرة أخرى يجعل الأمر مسألة بيروقراطية وليس أمرا يتعلق بأفعال الولايات المتحدة ومواقفها». وكتب يقول: «أمامنا طريق طويل. المجتمع الإسلامي عالم حاذق لا نفهمه بشكل كامل، ولا نحاول دائما فهمه. أعتقد أن مشكلة التواصل ليست مشكلة على الإطلاق. إنها ليست قضية عبارات، ولكنها قضية سياسات وخطوات تنفيذية وعملية. إن كل مرة نفشل فيها في الوفاء بوعودنا تظهرنا كمتغطرسين على نحو ما يؤكده أعداؤنا».

إن تحليل مولن هذا هو ما يعتمر في قلب وضمير كل مسلم ومسلمة وكل مواطن في «الأمكنة الخطأ»، ذلك لأنه يستند إلى احترام الحقيقة وفق مبدأ احترام الآخر واحترام ذكائه وعدم إضاعة الوقت في حيل وتعابير لفظية يعلم الجميع أنها لا تمت إلى الواقع بصلة. مع أن تصريحات مولن هي أهم ما قرأته عن العلاقة بين الغرب والشرق مؤخرا، والأسلوب الأنجع لمواجهة المشاكل المتفاقمة والمتراكمة على طريق هذه العلاقة، فإن وسائل الإعلام الغربية لم تحتفِ بتصريحات مولن كما تحتفي بمقالات إليوت أبراهامز العنصرية التي تنطق عن حقد وكراهية مقيتة للعرب ونظرة عنصرية لهم واستهانة بأرواحهم وأبنائهم وكرامتهم ومقدراتهم، وخذ على سبيل المثال لا الحصر مقال إليوت أبراهامز في «الويكلي ستاندارد ماغازين» الصادرة يوم 1/9/ 2009 والذي يقرر فيه أن مقاربة أوباما للعالم العربي وللدكتاتوريات تفشل. وطبعا أمثال أبراهامز لا يرون في العالم العربي سوى الدكتاتوريات والإرهابيين، وذلك نتيجة نظرتهم العنصرية للعرب واستهانتهم بحقوق العرب وكرامتهم. وللأسف، فإن مثل هذا المقال العنصري تتناقله وسائل الإعلام الغربية، بينما تغفل إلى حد كبير مقال مولن الذي يعبر عن شعور عال بالمسؤولية تجاه الذات أولا، وربما اتجاه الآخر. وإذا كان مولن يتحدث في مقاله عن أفغانستان حيث أجاب الذين يصفون الطالبان بأنهم يعيشون في كهوف قائلا: «هم لا يعيشون في كهوف، بل يعيشون بين الناس ويقدمون خدمات للناس ويتواصلون معهم»، فإن استنتاجاته تنطبق على السياسة الغربية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية أيضا حين قال: «فقط من خلال الفهم المشترك لثقافة الناس وحاجاتهم وطموحاتهم للمستقبل يمكن لنا نحن أن نأمل باستبدال رواية التطرف». («الهيرالد تريبيون» 28 آب 2009 ).

إذا ماذا تكلم عنه مولن؟ «ثقافة الناس، حاجات الناس، طموحات الناس»، هذه هي الأمور التي يفكر بها الناس ليل نهار في «الأمكنة الخطأ»؛ في غزة والقدس وفلسطين والعراق والجولان وسورية وأفغانستان وباكستان وبيلاروسيا وإيران، ولا أحد مستعد أن يقرأ اليوم في هذه البلدان عن «محور الشر» أو عن اهتمام الغرب بمحاربة الإرهاب. لقد سقطت الأقنعة اليوم ولم تعد تجدي طباعة آلاف الأوراق كل يوم محملة بمقولات إليوت أبراهامز وأمثاله ممن لا يكنون احتراما لشعوبنا، أو لمصداقية وكلمة الولايات المتحدة، حيث يرى الجميع هنا بعد ستة أعوام ونيّف من احتلال العراق أن الحصيلة هي أكثر من مليون يتيم عراقي، وأكثر من مليون أرملة، وأربعة ملايين لاجئ داخل وخارج العراق، كما يرى الجميع اليوم حملات إبادة إسرائيلية جماعية في غزة، وقتلا يوميا إسرائيليا عنصريا بشعا يردم الآبار، ويجرف الأراضي، ويمنع دخول الدواء، ويلاحق الصيادين الباحثين عن لقمة غذاء في البحر فيقتلهم، ويهدم البيوت العربية الجميلة في القدس الغربية ويطرد أهلها الذين عاشوا هنا لمئات السنين، والعالم كله يتفرج ويتحدث عن «إرجاء» للاستيطان أو «تأجيل» لمدة أشهر. بالمقابل يأتي أوغو شافير ليقول للعالم إننا في أميركا اللاتينية نستعيد حريتنا وكرامتنا ونعيش في مجتمع لا عرقي ولا طائفي، حيث الإنسان هو القيمة العليا، وما يقدمه الإنسان هو المعيار الوحيد لمكانته بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين. فكيف نريد لنفاق سياسي واضح لا يقيم وزنا للإنسان وكرامته وحريته في «الأمكنة الخطأ» أن يصمد أمام الصدق والمحبة والأمانة والاحترام العظيم للإنسان وإنسانيته وكرامته؟

إذا كانت السلطات الإسرائيلية تتهم كل من يحاول الكشف عن جرائمها بمعاداة السامية (انظر عدد جيروزاليم بوست يوم 3/9/2009 التي عاودت مهاجمة كاتبة هذا المقال بهذا الاتهام المكرور المرتد على أصحابه فهم أكثر من أساء لليهود ولتاريخهم بالدفاع عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية)، فماذا تقول مثلا عن تقرير منظمة «أوكسفام» الخيرية والتي كشفت عن حجم معاناة الفلسطينيين جراء الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان («الغارديان» البريطانية 28/8/2009 ) واعتبرت المديرة التنفيذية للمنظمة بربارا ستوكينغ تلك التقارير مادة يتوجب على الدبلوماسيين والساسة الغربيين ـ الذين لم يتخذوا حتى الآن أي خطوة ناجعة لوقف الاستيطان ـ أن يقرؤوها.

إذا كان الغرب يعتقد أن اختيار كلمات مثل «إرجاء» أو «تأجيل» أو «تجميد» الاستيطان بدلا من «تفكيك» المستوطنات، سيلقى صدى في قلوب من يتابع حقيقة الصراع في فلسطين، والغياب الكامل للعدالة على الأرض، وفي مواقف الحكومات الغربية، فإنهم واهمون، لأنهم يعتقدون أن المشكلة هي مشكلة لغوية، أو مشكلة من يحدد «المكان الخطأ».

لقد تجاوزت شعوب العالم اليوم هذه الألاعيب اللفظية المكشوفة، ولا بد من هذا الثقب في الجدار من أن يكبر على أيدي أصحاب المواقف الجريئة وآخرهم على قائمتي اليوم رئيس الأركان الأميركي مايك مولن، فهل يعتبر الواهمون أنهم قادرون على تحديد الزمان والمكان وحاجات وطموحات الناس، ويتحلون بشيء من التواضع ويبدأون بالاستماع إلى الأصوات الحقيقية للناس، بدلا من إلقاء الدروس السمجة والتي غدت مكشوفة للجميع؟