ازدهار العنف

TT

أسفر تفجير شاحنة مملوءة بالمتفجرات أخيرا عن تدمير بوابة أحد مراكز الشرطة في أنغوشيا، وهي جمهورية صغيرة في شمال القوقاز. ونجم عن التفجير الانتحاري مقتل أكثر من 20 ضابط شرطة وإصابة مائة مدني. والملاحظ أن أعمال العنف في تفاقم داخل أنغوشيا والمنطقة التي توجد بها بوجه عام، جراء افتقار الحكومة المحلية إلى الكفاءة وإهمال الكرملين.

ويمكن القول إن شمال القوقاز بات يشكل تحديا هائلا أمام الحكومة الروسية. وتمتد هذه المنطقة من البحر الأسود حتى بحر قزوين داخل الأراضي الروسية الواقعة في أوروبا، وتضم المنطقة الكثير من الجمهوريات، أو الأقاليم الخاضعة لإدارة عرقية، وتعد جميعها اقتصاديات ضعيفة أو تعاني من الاختلال الوظيفي، وتعتمد على الأموال المخصصة لها من قبل موسكو. وتتسم جمهوريات المنطقة بالفقر ومعدلات البطالة الهائلة وتفشي الجريمة والفساد. وينتمي غالبية السكان إلى المسلمين، ويتمسك السكان المحليون بالممارسات التقليدية، ويلتزمون بالقوانين الروسية بالكاد، وفيما بين عشرات الجماعات العرقية التي ينتمي إليها سكان المنطقة، غالبا ما يغلب التوتر أو حتى العداء على العلاقات.

خلال السنوات الأخيرة، عمد الكرملين إلى الاعتماد على مجموعة منتقاة من القادة، الذين تتولى موسكو إمدادهم بالمال وتغض الطرف عن الاختلاس والفساد المستشريين في المنطقة، علاوة على الأساليب الصارمة التي ينتهجها هؤلاء الحكام في إدارة شؤون بلادهم. من جهتهم، يتعهد السياسيون بالولاء لموسكو ويقدمون أصواتا ساحقة لصالحها في أثناء الانتخابات. ومن خلال رفضه تحمل المسؤولية عن فرض القانون والنظام في شمال القوقاز، قد يسعى الكرملين إلى تجنب تأجيج المشاعر المعادية لروسيا. وفي الوقت الذي يساور القلق موسكو حيال الأمن في روسيا، فإن أولويتها الأمنية في شمال القوقاز اقتصرت على احتواء أعمال العنف بحيث لا تمتد إلى باقي أرجاء المنطقة. وفي ظل غياب قيود مستمرة على أنماط السلوك غير القانونية، لم يعد الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن يخرج العنف عن نطاق السيطرة، ويتضح ذلك من التطورات التي شهدتها مناطق ثلاث:

في الشيشان، حيث تورطت روسيا في حربين مروعتين ضد المتمردين المناهضين لها، وعمد الكرملين إلى تمكين رمضان قديروف. لم يعد الجنود الروس يقاتلون في الشيشان، وحتى وقت قريب نجح قديروف في الحفاظ على السلم في أراضيه على نحو مقبول.

في الشهر الماضي فقط قُتل اثنان من النشطاء المعنيين بحقوق الإنسان، وتعرض منافسو وخصوم قديروف لإبادة منظمة. على سبيل المثال، وقعت عمليتا اغتيال في وضح النهار عامي 2006 و2008 في وسط موسكو. اليوم بات قديروف يتمتع بسلطة مطلقة، ويرى البعض أنه يحظى بقدر من الاستقلال الذاتي يفوق ما طمح إليه أي من أسلافه المتمردين، الذين قتلوا جميعا في معارك ضد روسيا. إلا أنه في الفترة الأخيرة، حتى الأساليب الوحشية التي يتبعها قديروف أخفقت في الإبقاء على الشيشان تحت السيطرة، حيث وقع عدد من الهجمات الفتاكة ضد مسؤولين شرطيين وإداريين هذا الصيف. مثلا، قتل أربعة ضباط شرطة، على الأقل، الأسبوع الماضي داخل العاصمة الشيشانية غروزني، على يد تفجيريين انتحاريين يركبان دراجتين.

من ناحيتها تمتعت أنغوشيا في وقت من الأوقات بقائد حكيم يجله شعبه، رسلان أوشيف، إلا أن القلق انتاب الكرملين حيال شعبية أوشيف الكبيرة، مما أضفى عليه قدرا بالغا من الاستقلالية. وعليه أجبر الكرملين القائد الأنغوشي على التخلي عن منصبه لرئيس آخر موالٍ لروسيا ويفتقر إلى الكفاءة، وأثارت أساليبه غير القانونية والوحشية استياء الكثير من السكان المحليين. تدريجيا، تحولت أنغوشيا إلى موطن دائرة مفرغة من أعمال العنف، حيث تضطهد الحكومة المحلية بقسوة أي شخص تعتبره مصدر تهديد لسلطتها، بينما يسعى ضحايا المعاملة الوحشية إلى الانتقام من الشرطة، مما يعقبه انتهاج إجراءات عقابية أكثر وحشية. وعندما قرر الكرملين أخيرا استبدال القائد الدمية كان الموقف برمته قد خرج عن نطاق السيطرة، حيث يخوض اليائسون الساعون إلى الانتقام والإقطاعيون المتشاحنون والراديكاليون الدينيون والقوى الإجرامية التي ترعرعت في ظل الفساد حربا ضد خصومهم. من جهته حاول القائد الأنغوشي الجديد الذي تم تعيينه منذ قرابة عام اتباع نهج أكثر عقلانية في ممارسة الحكم، وتعرض لإصابة بالغة جراء هجوم ضد في يونيو (حزيران).

وليس الوضع في داغستان بأفضل حالا، حيث أشار مراسل لمجلة «نيوزويك» سافر هناك هذا الشهر إلى أن «قوات الشرطة تتعرض لتفجيرات وإطلاق النار عليها على الطرق والقتل في فراشهم، في إطار معركة عرقية» بين المجموعة العرقية المهيمنة سياسيا والعشرات من الأفراد ممن يعانون من ظروف معيشية أدنى.

يأتي تفاقم أعمال العنف في القوقاز نتاجا للاستغلال الصارخ للسلطة من جانب قادة محليين وسياسات غير مسؤولة يتبعها الكرملين. سياسيا، ليس هناك ما يثير قلق الحكومة الروسية، حيث لا توجد معارضة سياسية تتحدى سياسياتها، ولن يقدم الشعب على نحو عام على محاسبة الكرملين على تنامي أعمال العنف في شمال القوقاز، ذلك أنه ما دام قد بقي العنف بعيدا عن ديارهم فلا يولي الروس اهتماما كبيرا للتطورات التي تطرأ على تلك المنطقة المفتقرة إلى الاستقرار. في الواقع، لا يعتبر الكثير من الروس شمال القوقاز جزءا من بلادهم، وكثيرا ما يعرب الناس في محطات الراديو أو المحادثات الخاصة فيما بينهم عن وجهة النظر بضرورة السماح لجمهوريات القوقاز بالاستقلال.

من ناحية أخرى، وفي أعقاب الهجوم الذي تعرض له مركز الشرطة الأنغوشي الأسبوع الماضي، قال الرئيس ديمتري ميدفيديف في بيان له إن جذور العنف تكمن في «ظروف حياتنا، في البطالة والفقر، في العشائر التي لا تأبه لأمر شعبها وإنما تعنى فحسب بتدفقات الأموال». بيد أنه في واقع الأمر لا يبدو أن الحكومة الروسية قادرة أو لديها استعداد لتناول هذه القضايا بجدية.

*رئيسة تحرير دورية «برو إت كونترا» الصادرة عن مركز «كارنيغي» في موسكو

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»