سورية والعراق: التباغُض يعيد نفسه

TT

عندما انتهت الزيارة القصيرة التي قام بها رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي إلى دمشق يوم الثلاثاء 18 أغسطس (آب) 2009 بإعلانه مع زميله رئيس الحكومة السورية محمد ناجي عطري عن «تأسيس مجلس للتعاون الاستراتيجي عالي المستوى» استوقَفَنا نحن الذين نتابع إيقاعات التحول البشَّاري المتأني وُفْق الحرص ألاَّ تأتي التوازنات على حساب الثوابت، هذه السرعة في الاتفاق، ووجدنا أنفسنا نتساءل: هل اقتنع الرئيس بشَّار الأسد، عندما أجرى جلسة محادثات صريحة مع الرئيس المالكي قبل أن يوجِّه بعقد المؤتمر الصحافي للإعلان عن الاتفاق بقول المالكي «إن العراق صاحب سيادة الآن وإن الانسحاب العسكري الأميركي يجري وفق توقيت ملتزم»، أم أن الرئيس السوري اعتبر كلام رئيس الوزراء العراقي نوعا من التمني لحالة وليس تأكيدا بحصولها. لكن في أي حال تم الاتفاق مع المالكي على إنشاء «المجلس الاستراتيجي» المشار إليه من منطَلَق أنه إذا كان العراق لم يصبح سيدا بالكامل فإن الاتفاق ربما يساعده على ذلك. وإذا كان التشاور بين البلدين يتم حتى الآن على قاعدة تشاوُر أهل الحوار وعلى أرضية من الحذر المتبادَل فإن «المجلس الاستراتيجي» ربما يعطي ثُقلاً للعراق يساعده أكثر على تحقيق الانسحاب ويشجع أطرافا عربية أساسية على التعاون مع «العراق السيد».

مقومات التعاون استراتيجيا بين سورية والعراق كثيرة. فهنالك الأمن والغاز والنفط والتجارة والفرات والعشيرة إضافة إلى ذوي القربى عن طريق المصاهرة، وكلا البلدين في أشد الحاجة إلى الآخر. ثم هنالك النقطة الأهم وهي أن الحساسيات الحزبية ليست قائمة، حيث حزب «البعث» يحكم سورية وحيدا حتى إشعار آخر، بينما الأحزاب المتصارعة عدا «البعث»، المعمول من جانب إيرانيي الهوى على اجتثاثه، تتحكم بالعراق. وإذن فإن التعاون في إطار «اتفاق استراتيجي» يبقى أكثر راحة بال من اتفاق وحدوي أو اتحادي بين دولتين محكومتين بحزب ذي عقيدة واحدة وتعقيدات كثيرة على مستوى التعامل بين صاحبيْ الحل والربط كما الحال قبل ثلاثين سنة بين الرئيس حافظ الأسد والرئيس صدام حسين.

هنا، وبعدما كان المالكي من جهة وعطري من جهة مقابلة أشاعا أجواء أخوية طيبة من خلال الكلام السياسي الرومنسي عن «العراق الظهير للأمة» و«ما يصيب العراق يصيب سورية» وخلاف ذلك من طيِّب الكلام الذي يتوق الشعبان في سورية والعراق إلى تنفيذ مضامينه، توجَّه الرئيس بشار إلى طهران في زيارة قصيرة هي الأخرى، لكي يهنئ الرئيس محمود أحمدي نجاد بإنجائه من براثن «انتفاضة الإصلاحيين» عليه وعلى والده الروحي آية الله علي خامنئي. وهناك كرر إخواننا أهل الحكم الإيراني، الذين استقرت أحوالهم نسبيا، على الرئيس بشار فكرة حلف أخوي يضم إيران والعراق وتركيا وسورية. ونلاحظ أن مفاجأة لم تكن في الحسبان «أُهديت إليه» بعد عودته من طهران غير مرحِّب بطبيعة الحال بهذه الخلطة التطويقية للأشقاء العرب من جهة وللأوروبيين من جهة أخرى يتم عرْضها عليه في وقت يسعى من أجل الانطلاق بسورية نحو مرحلة من الاستقرار الذي يحقق التسوية المضمونة دوليا، ويحقق السلام، تبعا لذلك، حالة من الازدهار عن طريق جذب المزيد من الاستثمارات العربية والأجنبية تُغني النظام عن الاستنجاد مكرَها ومضطرا، وهذا ما استنتجناه من قول المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية الدكتورة بثينة شعبان بعد جولة محادثات أجراها المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشيل مع الرئيس بشار يوم الأحد 26 ـ 7 ـ 2009: «إن ميتشيل أجرى محادثات ايجابية وبناءة مع الرئيس الأسد. هنالك حوار بدأ بين سورية والولايات المتحدة نعتقد أنه سيستمر وستكون نتائجه إيجابية على المدييْن المتوسط والبعيد».

كانت «الهدية» إلى الأسد الابن من العراق شبيهة بـ«هدية» الرئيس صدام حسين إلى الأسد الأب عام 1979 والتي جاءت بعد اتفاق استراتيجي آخر.. إنما في إطار وحدة قوى الحزب الواحد.

تمثلت «الهدية إلى الرئيس بشار من العراق المالكي بإعلان الحكومة العراقية يوم الثلاثاء 25 ـ 8 ـ 2009 أنها استدعت السفير من دمشق علاء حسين الجوادي الذي كان الرئيس بشار تسلم أوراق اعتماده يوم 16 فبراير (شباط) 2009، وفي الوقت نفسه عين نوَّاف الفارس سفيرا لدى العراق وذلك بعد عودة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ بداية حكم البعث الصدَّامي وأُعيدت خلال زيارة وزير الخارجية السورية وليد المعلم إلى بغداد يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2006. أما لماذا الاستدعاء المباغت هذا فلأن الرئيس المالكي شخصيا حمَّل الحكم السوري مسؤولية أكثر التفجيرات قساوة وإحراجا للمالكي حدثت يوم الأربعاء 19 أغسطس (آب) أي في اليوم التالي لعودة الرجل من الزيارة الاستراتيجية إلى دمشق. ومع أن «دولة العراق الإسلامية» التي هي الفرع العراقي لتنظيم «القاعدة» أو حسب التسمية البعثية «تنظيم القاعدة ـ فرع قُطر العراق» تبنت التفجيرات المحرجة، إلا أن قرار اتهام كان شبه جاهز وتحديد المسؤول عن هذه التفجيرات التي لم تقتصر الخسارة المادية والبشرية فيها على بضع مئات من القتلى والجرحى، وإنما استهدفت وزارة الخارجية ووزارة المالية ووزارة الدفاع ومبنى محافظة بغداد وبعض المقرات في «المنطقة الخضراء، ووصَفَ جيران الخارجية التي يتربع فيها هوشيار زيباري بأن الدوي الذي نتج عن التفجير قرب الخارجية جعلهم يظنون أن قنبلة ذرية انفجرت.

لم يتم الاستدعاء للسفير العراقي لدى سورية من خلال بيان يصدر عن الخارجية وإنما من المتحدث باسم الحكومة علي الدباغ الذي صاغ التصريح بمفردات استهدفت على ما يجوز الافتراض أن يرد الحكم السوري على الخطوة بالمثل وفورا، وهذا ما حدث. وفي البيان الدباغي نقرأ الآتي: «إن مجلس الوزراء قرر مطالبة الحكومة السورية بتسليم محمد يونس الأحمد وسطَّام فرحان لدورهما المباشر في تنفيذ العملية الإرهابية، وإن وزارة الخارجية ستطالب الحكومة السورية بتسليم جميع المطلوبين قضائيا ممن ارتكبوا جرائم قتل وتدمير بحق العراقيين وطرد المنظمات الإرهابية التي تتخذ من سورية مقرا ومنطلقا للتخطيط للعمليات الإرهابية ضد الشعب العراقي. كما أن مجلس الوزراء قرر استدعاء السفير العراقي في سورية للتشاور معه في شأن الموضوع وكلَّف وزارة الخارجية مطالبة مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب الذين خططوا ونفذوا جرائم حرب وجرائم إبادة ضد الإنسانية بحق المدنيين العراقيين والإيعاز إلى وزارتي الداخلية والعدل بتنظيم ملفات استرداد المجرمين المطلوبين عن جرائم الإرهاب».

ردت سورية على طريقتها وبدرجة أقل سخونة من البيان الاتهامي العراقي الذي بدأ باستدعاء السفير لينتهي إلى المطالبة بتشكيل محكمة دولية على غرار المحكمة غير المحسوم أمرها بالنسبة إلى جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأبدت استعدادها لاستقبال وفد يتقصى الحقيقة. وفي هذه الأثناء كان تبادُل الاتهامات بين الأطياف العراقية يأخذ مداه وكان «تنظيم القاعدة» الذي تبنى الجريمة يتباهى بما فعل ويهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور «لضرْب رؤوس الكفر في الحكومة المرتدة».

أما الأكثر إيلاما، فهو أننا لم نجد بين العراقيين والسوريين سعاة خير لرأب الصدع. كما لم نجد الأمين العام للجامعة العربية ينتقل إلى «ميدان المعركة السياسية العراقية ـ السورية» ليصلح بين ذوي الجيرة تاركا الأمر إلى إيران وتركيا اللتين تنشط كل منهما على طريقتها لخطف سورية من خيمتها العربية وفي وقت تواصل الإدارة الأميركية من جانبها وبمؤازرة بعض الأوروبيين العمل على استمالة هذه الحسناء الغالي كثيرا مَهْرها.

ونصل إلى الأكثر إثارة في الأمر، وهو أن هذا التباغض المستجد بين سورية الأسد الابن بشَّار والعراق المتعدد الرؤوس حاليا، هو في بعض جوانبه مثل التباغض الذي حدث بين سورية الأسد الأب وعراق صدام حسين. بدأ المشهد بلقاء على مستوى القمة في بغداد بين الرئيسين حافظ الأسد وأحمد حسن البكر، وتم بين الشقيقين البعثيين بعد محادثات معمقة من 16 إلى 19 يونيو (حزيران) 1979 التوصل إلى «ميثاق للعمل المشترك» و«قيادة سياسية موحَّدة للقُطرين» واقترح كل منهما التسمية التي يراها للدولة الموحَّدة الجديدة، حيث اقترح الرئيس حافظ الأسد اسم «الجمهورية العربية المتحدة» لإحياء وحدة 1958 (المقصوفة من الكُزبَرية) بين سورية ومصر، ووافق الجانب العراقي على التسمية رغم أن الرجل القوي في النظام صدام حسين أو «السيد النائب» كان يُفضل تسمية «الدولة العربية الاتحادية». ثم يحدث فجأة اكتشاف «مؤامرة تقف سورية وراءها» كانت وفق الاتهام العراقي تعمل على الحؤول دون تسلم صدام حسين المسؤولية الكاملة في الحزب والدولة، ويتم إعدام عدد من القياديين البعثيين البارزين والمخلصين ببنادق رفاق لهم بتوجيه من صدام حسين الذي بات الحاكم المطلق الذي لا رادَّ لمشيئته، والذي عيَّن بعض أعضاء «مجلس قيادة الثورة» لمحاكمة أعضاء في هذا المجلس. والتهمة هي: «التآمر» مع سورية ضده.

وبعد تلك المحاكمة والإعدامات من حيث السرعة والأسلوب بدأت صورة صدام تبهت في النفوس وانقطعت العلاقات بين البعث السوري والبعث العراقي. ثم تغير العراق وأعيدت العلاقات، إنما لبضعة أيام وربما إلى قطيعة جديدة من ثلاثين سنة أخرى، الله أعلم.. خصوصا في حال أصر العراق المالكي، لغرض في نفس إيران التي لم يكتمل ثأرها من العراق الصدَّامي، على أن تسلِّم سورية البشَّارية البعثية رفيقيْ العقيدة الأحمد وسطَّام، اللذيْن مع كثيرين وجدوا الملاذ في البيت الذي يحميهم، وليس من شِيَم الرفيق الحامي أن يسلِّم رأس الرفيق طالب الحماية إلى من يبغي قطْعاً للرأس. وهكذا، كما التاريخ، فإن التباغض يعيد نفسه.. وبالذات بين العراق وسورية.