سياسة «شفير الهاوية» السورية على مفترق طرق؟

TT

وقد يتزيا بالهوى غير أهله

ويستصحب الإنسان من لا يلائمه

(المتنبي)

بصرف النظر عن أهمية المعايير الأخلاقية في ممارسة العمل السياسي لا بد من الاعتراف ببراعة «مهندسي» السياسة السورية في تحويل الضعف إلى ميزة، بل جعل الضعف والإضعاف رصيدا ثمينا يدعم مبررات بقاء الحكم.. أو بالأصح، الإبقاء عليه.

فكل من رافق «الثوابت» الحقيقية للحكم الحالي ـ بمرحلتي الرئيسين حافظ وبشار الأسد ـ يلمس أن «الثوابت» الأساسية تتمحور حول غاية المحافظة على الحكم، وكل ما عدا ذلك تفاصيل تندرج تحت المتحولات، بالرغم من وجود اعتبارات معنوية مهمة تتعلق بـ«الهوية» العقائدية والقومية والتحريرية التي يروجها الحكم لنفسه.

فالصورة التي تعاملت بها دمشق مع الحرب اللبنانية بين 1975 و1990 وفسرت المرة تلو أخرى مسوغات «تحالفاتها» الظرفية وانقلاباتها على اللاعبين المحليين، الذين توهموا كل بدوره أنهم يستغلون دمشق لمصلحتهم، تؤكد أن رهانها الثابت الأساسي كان من ناحية أولى.. حماية حكمها من راديكالية عروبية ـ يسارية هي بعيدة عنها كل البعد.

ومن ناحية ثانية، طمأنة أهل الحل والعقد في الغرب، وكذلك في إسرائيل، إلى أن في دمشق حكما عاقلا يعرف حدوده فلا يتجاوزها. ومن ثم توجيه رسالة إلى تلك القيادات مؤداها أن احتواء الراديكالية العربية، التي قد تشكل في يوم من الأيام خطرا على إسرائيل، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر دمشق مرتاحة إقليميا.. ممسكة بكل أوراق الراديكاليين بعد ترويضهم.

لهذا السبب كانت هناك موافقة عربية وغربية شبه عامة على «التفويض السوري» في لبنان. ومن ثم ترسخ هذا «التفويض» ومعه الإقرار بأهمية هذا الدور «المعتدل» بعد الغزو العراقي للكويت.. فجرى تجديده.

خطاب «الممانعة»، التصعيدي طبعا، سمح للحكم في دمشق بكسب رضا واسع في أفئدة الجماهير العربية المهمشة والمحبطة، تكرارا، بعجز «النظام السياسي العربي» عن فعل شيء في وجه عدوانية العضلات الإسرائيلية. غير أن التموضع إقليميا مع طهران منذ الثورة الخمينية أعطى الحكم في دمشق صبغة كان في غنى عنها، بل ويهمه أن يبعدها عنه.. ولاسيما بعدما دخلت المنطقة خندق الاستقطاب المذهبي الحاد بين «الشيعية السياسية» ممثلة بإيران، و«السنية السياسية» ممثلة بالنظام السياسي العربي من الخليج إلى المغرب.

دمشق، ببراعة تُحسد عليها على مستوى رجل الشارع العربي، لكنها لا تنطلي على إسرائيل ولا «لوبياتها» الغربية، وبالذات في واشنطن، استخدمت قاسم «الثورية» المشترك في وجه الإمبريالية والصهيونية.. مبررا لـ«ممانعتها» المجلجلة، وكذلك لتحالفها «الاستراتيجي» الغريب بعض الشيء مع طهران.. كحكم «قومي عربي علماني اشتراكي» مع نظام «ديني مذهبي إيراني».

ولكن الإشكالية هنا، أن إسرائيل لم تكن قلقة ـ على امتداد نحو 40 سنة ـ من حكم لا يعترف بوجودها كدولة إذ يسميها في أدبياته الإعلامية «العدو الصهيوني»، و«يمترس» على حدودها الشمالية الشرقية، ويقرع كل يوم طبول التحرير وينتقد كل المتخاذلين عن حمل السلاح ضدها. بل إنه خلال العقدين الأخيرين، كان يمرر السلاح إلى المقاومة الإسلامية، التي ساعدت العلاقة الخاصة بين دمشق وطهران على حصر حق السلاح بها بعد «اتفاق الطائف».. ليتسرب معها هذا السلاح إلى المنطقة الحدودية المتاخمة للجليل المحتل.

أكثر من هذا، كانت إسرائيل عبر أصدقائها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، في غاية الحرص على إفهام ذوي الأمر في العواصم الغربية أن أي بديل للحكم الحالي في دمشق مرفوض، وأنها تفهم سقف مطالبه، ولا تطلب منه عندما يبالغ في «المشاغبة» ـ أي «المزايدة» تحريريا على باقي العرب ـ إلا تغيير سلوكه. وهذا ما تبلور صراحة في حث تل أبيب واشنطن علانية على دعوة سورية إلى «ملتقى آنابوليس».

ومن ثم، بالرغم من سعادة مخططي السياسة «الليكودية» الإسرائيليين والأميركيين اليمينيين بالهجمة الإيرانية على المنطقة العربية انطلاقا من اعتبار أنها لا يمكن إلا أن تخدم غاية إثارة الفتنة المطلوبة بين الأصوليات الإسلامية السنية والشيعية، طور أصدقاء إسرائيل في واشنطن بعد بدء عهد باراك أوباما فكرة «فصل دمشق عن طهران». وبالفعل، سارت الدبلوماسية الغربية بقيادة واشنطن وباريس قدما بهذا الاتجاه. وقُدّمت لدمشق مغريات عدة خلال الأشهر الماضية.

غير أن تعزيز جناح المتشددين المرتبطين بالمؤسسة الأمنية قبضتهم على السلطة في طهران، بعد انتخابات يونيو (حزيران) الماضي، أربك الصورة إلى حد بعيد. وقبل أن ننسى.. خلال هذا الشهر هناك استحقاق الملف النووي الإيراني. وأيضا افتتاح الدورة الـ64 للأمم المتحدة، التي يتزايد قلقها المعلن مما تعتبره محاولة لعب على الوقت من قبل طهران أكثر تشددا في الموضوع النووي.

ولا شك أن ما يحدث اليوم في العراق، وكذلك في جبال اليمن، يشكل وجوها من انعكاسات انتصار جناح التشدد الأمني الإيراني.

ولئن كان محور دمشق ـ طهران لا يزال يحاول اللعب كفريق واحد في لبنان همه تحقيق أكبر قدر من المكتسبات على حساب مشروع قيام الدولة السيدة المستقلة.. قبل بدء التفسخ الاضطراري من أجل الدفاع عن النفس، فإن الصورة الدامية في العراق تعكس بُعدا آخر للصراعات المستعرة في المنطقة.

فعلى الساحة العراقية ثمة خلاف جوهري الآن بين الفصائل الشيعية التي تسلمت السلطة في بغداد بعد إطاحة حكم صدام حسين. ومع أن جزءا من الخلاف الشيعي ـ الشيعي على الساحة العراقية كان في الواقع موجودا قبل ما حدث في إيران بعد انتخابات حزيران.. فإنه كان بين أجنحة لها ارتباطاتها العائلية والمرجعية بين البلدين. أما صراع اليوم فيدور حقا، كالصراع الإيراني، بين تيار براغماتيكي عاقل يدرك متى يصل بمشاريعه وأحلامه إلى «الخط الأحمر».. وتيار آخر تسلطي أمني الذهنية لا يفهم العالم من حوله ولا يريد أن يفهمه.

دمشق التي لعبت طويلا للمحافظة على جاذبية ضعفها في عيون الخصوم لإقناعهم بفضائل المحافظة على حكمها، عملت طويلا كذلك لإضعاف جيرانها، شرقا وغربا وجنوبا، وإنهاكهم لتعزيز مكانتها الإقليمية على حسابهم.

فهل وصلت اللعبة إلى نهايتها؟ ومتى تكتشف دمشق أنها حقا على مفترق طرق؟