اسماهما فاطمة وأم كلثوم

TT

على ماذا يمكن أن تغبط نجيب محفوظ؟ على جائزة نوبل؟ لقد نالها كثيرون منذ 1901 حتى اليوم. على رواياته؟ كثيرون كتبوا مثله أو تجاوزوه؟ على مكانته في بلده؟ لقد طعنه عامل ميكانيكي في عنقه وهو على أعتاب التسعين. على موقعه في أدب أمته؟ لقد شتم يوسف إدريس نوبل يوم أعطيت له وقال إنها جائزة ملوّثة. على موقعه في أمته؟ لقد قيل في أمته إنه أعطي الجائزة لأن زوجته يهودية. وقيل لأنه استقبل وفدا من الكتَّاب الإسرائيليين. ولم يقل أحد إن للرجل ابنتين، الأولى فاطمة والثانية أم كلثوم.

عندما أفكر في ما يمكن أن يغبط عليه أشهر روائي عربي، لا يخطر لي سوى شيء واحد: تلك البساطة المولودة التي ما استطاع أن يقهرها شيء. كم كانت نفسه نبيلة لكي تكون حصينة إلى هذه الدرجة. كم كان هذا الرجل الناحل، الخفيف مثل نسمة، عاليا مثل سور الصين. وربما أعلى. أعلى ثم أعلى.

السكينة أعظم هبة في الحياة. ونجيب محفوظ كان طافحا بها. لم يطلب شيئا سوى ما كان لديه. قلمه، وكدسة من الورق. ولم يسع إلى شيء، لا وظيفة عليا ولا منصب ولا شهرة ولا فقاعات. ولم يطلب مالا ولا جاها ولا نفوذا ولا كسبا ولا وساطة.

وإذا كانت القناعة كنزا فقد كان لنجيب محفوظ كنوز الملك سليمان. كان أمير البساطة وأمير التواضع وأمير الهدوء، فيما كانوا يتخاطفون من حوله ويتقاتلون ويتشاتمون ويردحون الردح الفاجر. هكذا مضى هادئا في طريقه البسيطة التي أوصلته إلى أعلى مكافأة معنوية في عالم الآداب. وضعته نوبل إلى جانب طاغور الذي كان مثله عالي الروح، وسيع القلب، وهمه الوحيد الإنسان والخير وخلاص البشر من أدرانهم.

عاش تسعة عقود لا يغير وظيفته ولا مقهاه ـ إلا إذا المقهى غيَّر في حاله ـ ولا الترزي ولا البذلة البسيطة بلا ربطة عنق. فقط تنقل بين الستِ زينب والحسين، كما غنى عبد المطلب. بضعة أحياء في عالم لم يستبدله بشيء. وهذا العالم كان اسمه القاهرة. قاهرة نجيب محفوظ، لا قاهرة المعز. ومن هذه القاهرة انتقى أشخاصه وعناوينه وسيرته وسكينته العظيمة. ولما جاءته الجائزة الكبرى، هو الذي لم يطلب شيئا ولم يناقش في أجر، أصرَّ على أن ينتظرها في القاهرة. ما بين زقاق المدق والسكرية. للعالم أن يحتفل في استوكهولم. هو، نجيب محفوظ، سوف يبقى هنا، يثرثر على النيل، يلازم قصر الشوق، يتفقد أبطاله وأشخاصه وأهل العباسية الذين كلفوه كتابة قصصهم.

رفض السياسة والصحافة والزيف والزيغ وحياة الفقاعات. وبالكاد قبل المكافأة على ذلك.