يا دجلة الخير

TT

لا بد أن أذكر وأتذكر أنني ولدت وقضيت جل حياتي في العراق قريبا من شواطئ هذا النهر الخالد، نهر دجلة. وكأي بغدادي أصيل، أصبحت مقاهي شارع أبي نواس وحاناته مرتعا لأيام شبابي. آكل السمك المسقوف وأشم رائحة الشوي وأتفرج على لهيب النار. وأستلقي على رمال الشاطئ.

هكذا اصطبغت حياتي بهذا العنصر النهري. إذا رسمت منظرا أخذ النهر مكانه الرئيسي في الصورة. وإذا كتبت فالكثير من كتاباتي ترد من وحي ذكرياتي عن النهر. وهكذا فلي سجل طويل من ذكريات نهر دجلة، بل فلأقل من بركات نهر دجلة. اذ ان لهذا النهر الغضوب والحنون بركاته. وبركاته متنوعة ومتشعبة.

كنت في طفولتي صبيا شاحب الوجه، أصفر اللون، ونحيفا جدا، وكانت هذه العلائم كثيرا ما ترتبط في أذهان الناس بمرض السل الذي كان شائعا ومخيفا أيضا. وبالطبع وقعت ضحية لهذه الدوامة بعد أن أصبح الأهل والأصحاب يعتقدون بأنني مصاب فعلا بهذا المرض المخيف. كان الأولاد يعاكسونني ويعيرونني بأنني مسلول وسنة زمان وأموت. وهكذا قضيت صباي وشبابي وأنا في هذا الكابوس المرعب، أنتظر الزيارة المشؤومة من ملك الموت.

استفقت يوما وإذا بي قد فقدت صوتي وجفت حنجرتي. يا للهول، قلت لنفسي، بدأ المرض الخبيث يأخذ بي. انتظرت يوما ويومين وعدة أيام ولم أستعد صوتي وبقيت البحة في كلامي. إنها النهاية بدون شك. كان المفروض أن أذهب للدكتور ولكن الخوف الذي تملكني أقعدني عن ذلك. وفي محنتي النفسية، جمعت ما بقي من قواي وقررت الذهاب لإحدى الشايخانات الشعبية على شاطئ أبي نواس. سحبت كرسيا إلى حافة الماء وطلبت استكان شاي. ما أن انتهيت من الشاي حتى شعرت بذلك النسيم العليل، نسيم الصبا الذي خلده الجواهري:

ودجلة تمشي على هونها

ويمشي رخيا عليها الصبا

حدقت بلمعان مياه دجلة تمشي على هونها وتركت نسيم الصبا يهب ويضرب أنفي وصدري كأنامل ساحر مغناطيسي سرعان ما أسلمني لنوم عميق. استفقت بعد سويعات من سباتي وناديت على النادل، «يا ولد، تعال خذ فلوسك!» ما هذا؟ تعال خذ فلوسك، أقولها بصوت جهوري واضح لا بحة فيه ولا خدش. كررت العبارة ورحت أكلم النادل، وكأنني آدم عليه السلام ينطق أول مرة بالكلام. نعم لقد استعدت صوتي. ليس بي أي عيب. من يقول إنني مصاب بالسل؟ إنني شاب صحيح البدن. وكيف يمرض إنسان وإلى جانبه نهر دجلة وفي صدره أنسام الصبا محملة بعطره وأنفاسه.

عدت إلى البيت وبركة نهر دجلة تجدد إيماني بالحياة والصحة. وكانت مكرمة أخرى لهذا النهر الخالد بقيت في ذاكرتي، أستعيدها كلما تذكرت العراق لا يكدرها شيء كما تكدرها أنباء جفافه وانحساره. النهر الذي شفاني من العلة غدا عليلا في هذه الأيام. فليشفك الله يا دجلة الخير كما شفيتني من قبل.