من المصيبة ببوش إلى الكارثة بأوباما

TT

من السخف والاستخفاف بالعقل والمنطق تلخيص الصراع بإشكالية الاستيطان! من المضحك المبكي أن يعود محمود عباس إلى ابتلاع طُعْمِ مفاوضات جديدة، بعد تجربته القاسية مع المحتال إهد أولمرت. جرَّ بوش وكوندوليزا العرب إلى أنابوليس (2007)، بوعد لإنهاء المفاوضات باتفاق على إقامة الدولة الفلسطينية. كان الوعد أكذوبة كبرى لتجنيب إسرائيل انتفاضة فلسطينية جديدة، انتفاضة تكشف تهاون إدارة بوش، واستهتارها بتجاهل الفلسطينيين ثماني سنوات، منحت خلالها إسرائيل «حق» تملك واستيطان الضفة، وتعهدا أميركيا بدعم رفضها الانسحاب إلى حدود 1967.

عباس اليوم يقف على الميزان، ليرى وزنه الشعبي قد ازداد مصداقية، بعدما أَمَّنَ الضفة (3.5 مليون فلسطيني) من عبث مقاومة فالتة، الاستفتاءات تشير إلى أنه سيكسب صوت الضفة، ويفوز على حماس في غزة، إذا ما جرت انتخابات الآن. فلماذا يريد عباس تبديد شعبيته، بدفعه إلى الهرولة نحو مفاوضة أكثر حكومات إسرائيل تطرفا وتعصبا ورفضا للحقوق الفلسطينية المشروعة؟

هل أوباما، في رؤية عباس، أكثر جدارة بثقة العرب والفلسطينيين من سلفه بوش؟ كنت أتمنى أن أجاري عباس بـ «نعم» خجولة لا يصرح بها هو علنا. مع الأسف، فهذا الرئيس الأميركي المثقف الذي تعاطف العرب معه، يتوجه ويتصرف ديبلوماسيا وميدانيا، بغير ما أعلن في القاهرة عن «أسلمة» خطابه، وعن تعاطفه مع المأساة الفلسطينية.

زودت أوروبا إسرائيل بالتقنية النووية. سلح رؤساء أميركا إسرائيل بأحدث الأسلحة. كانت الذريعة أمام العرب هي أن إسرائيل كلما ازدادت قوة وأمنا بالتفوق عسكريا على العرب جميعا، انفتحت شهيتها على السلام معهم، والانسحاب من أرضهم. كانت النتيجة أن إسرائيل ضمنت الأمان ورفضت السلام.

أوباما يستمر في عملية المكر والخداع. يقول للعرب: تفضلوا. قدموا تنازلات جديدة لإسرائيل المحتلة، لترضية حكومة ليبرمان ونيتنياهو، ولترغيب الإسرائيليين في السلام. آه! يرضى القتيل، وليس يرضى القاتل. لأن أوباما لا يرغب أو لا يستطيع الضغط على إسرائيل، فعلى العرب تقديم التنازلات للترضية!

ما هي التنازلات المطلوبة؟ أوباما يطالب العرب بالتطبيع مع ليبرمان ونيتنياهو: تجارة. سياحة. فتح المجال الجوي الخليجي أمام الطيران الإسرائيلي. تسهيلا لوصول إسرائيل إلى الأسواق النامية في الهند والصين. بعد انفصال حماس الكارثي بغزة، لم يبق أمام بشار وعباس من ورقة ضغط تفاوضية سوى الورقة العربية. بشار بدَّدها بالاستدارة ضد السعودية ومصر، للتلويح بورقة نجاد وخامنه ئي الإيرانية، فلم توفر له إيران سوى الدعاء للحماية من الغارات الأميركية والإسرائيلية.

إدارة أوباما تقول للإعلام إن هناك دولا عربية راغبة في التطبيع مع ليبرمان ونتينياهو وإهد باراك، وإذا لزم الأمر، فهي مستعدة للمشاركة في المفاوضات. كانت السعودية صريحةً صراحة ورقتها التي تبناها العرب في القمم الأخيرة: لا صلح، لا تطبيع مع إسرائيل، قبل الاتفاق مع الفلسطينيين والانسحاب من الضفة والجولان ولبنان.

من هي هذه الدول «المطبِّعة»؟ مصر والأردن ترتبطان بمعاهدة صلح وسلام مع إسرائيل، لكن لم تطبعا العلاقة معها. حاكم موريتانيا الجديد جَمَّدَ التطبيع. إدارة أوباما تقول همسا إن دولا في الخليج مستعدة للتطبيع، في مقابل الخدمات التي تقدمها لها أميركا، متذرعة بحمايتها من الخطر الإيراني.

كم كان في ودي لو أن الأدب الدبلوماسي السعودي والنصح الأبوي، يسمح بفضح المحاولات الخليجية التطبيعية والراغبة في اشتراك إسرائيل بـ «تأمين» الخليج. لعل الجيل الجديد من الحكام هناك يعرف ويقتنع بأن تمايزه عن الجيل الأقدم، لا يكون على حساب المصلحة القومية، والرؤية السعودية المتعقلة، وتجاهل قرارات القمم العربية ومجلس التعاون الخليجي. مبارك يقول: «الشعوب العربية زهقت من القضية الفلسطينية» صحيح. تعب العرب من التمزق الفلسطيني، ومن المزايدات الفلسطينية. لكن الرئيس المصري لم يفرض التطبيع مع إسرائيل على مصر، على الرغم من مضي ثلاثين عاما على صلح الكامب.

أترك مغالطات أوباما مع العرب، لأمضي مع مغالطاته مع المسلمين. أقول إذا كانت حرب العراق مصيبة العرب ببوش، فحرب أفغانستان ستكون كارثة المسلمين وبلواهم برئيس أميركي، كأوباما، دماؤهم تجري في عروقه. أوباما اليوم يتابع حربا عليهم بدأها بوش. أوباما يتبنى مبدأ «الحرب الوقائية» التي نادى بها دهاقنة «المحافظة الجديدة» في الحزب الجمهوري. من سوء حظ باراك حسين أوباما أن هذه الحرب تفقد مصداقيتها، ومعها أيضا مصداقيته لدى الرأي العام الأميركي، وفي العالم الإسلامي.

68 ألف جندي أميركي، و40 ألف جندي أوروبي، وربع مليون شرطي وجندي أفغاني... لم يستطيعوا تحقيق نصر حاسم، خلال حرب السنوات الثماني على طالبان. هذه القوات محاصرة في المدن وجيوب في الريف. لإنقاذها من الحصار والهجمات الطالبانية عليها، يقوم الطيران الأميركي (والطيران الألماني أخيرا) بدك التجمعات المدنية والسكانية التي يختبئ رجال طالبان بين طياتها الكثيفة.

34 مليون مسلم أفغاني هم عرضة لحرب إبادة حقيقية. حرب حديثة مختلفة عن حروب الماضي. حرب كريهة وقذرة. قصف جوي يعقبه اعتذار تقليدي عن القتل الجماعي للمدنيين، ووعد بتحقيق لا يتحقق. دمر الطيران الأميركي والبريطاني مدينة درسدن الألمانية فوق مئات الآلاف من سكانها في الحرب العالمية الأخيرة. ها هي المستشارة أنغيلا ميركل تنقض وعد ألمانيا الجديدة بعدم شن الحرب، بعدم خوض حرب خارجية، بعدم إرسال جنودها في مهمة للقتل وللموت. أنغيلا ترسل طائراتها للفتك الجماعي بمدنيين تجمعوا لالتقاط قطرات من النفط من صهريجين خطفتهما قوات طالبان. كل من المنادين بتسييس المرأة وترئيسها لا ينادي بنصب المحاكم، لا للبشير فحسب، وإنما أيضا لمجرمي الحرب في العراق وأفغانستان؟

إدارة أوباما وقادتها العسكريون يخالفون إدراكهم فشل الجيوش النظامية في خوض حروب، ليس ضد دول، وإنما ضد تنظيمات تتحرك كالأشباح في مخابئ وحصون تحت الأرض، أو تختبئ بين السكان المدنيين المجبرين على إيوائها. حرب حزب الله وإسرائيل (2006) فتكت بـ 1200 مدني لبناني. لم تنتصر فيها إسرائيل. لكن نقلت عدواها للأميركيين بتلقينهم مبدأ الانتقام من المدنيين.

ديمقراطية الإعلام التلفزيوني فضحت مذابح إسرائيل في حرب غزة (أوائل عام 2009). وها هي تفضح حرب أوباما في أفغانستان أمام مئات ملايين المشاهدين في بلده والعالم أجمع. من بوش ووزيره رامسفيلد إلى أوباما ووزيره روبرت غيتس، يخفق الظن بأن الحرب الإلكترونية قادرة على الانتصار في حروب الأشباح الحديثة. حروب ضحاياها شعوب آمنة أسيرة نارين: نار أنظمة وتنظيمات قمعية وجاهلة، ونار قوة تشن حربا عن بعد، لا بطولة فيها ولا فروسية أخلاقية.

ما الحل؟ الحل ببساطة في الانسحاب من أفغانستان. تحويل خمسين مليار دولار من الإنفاق على الحرب إلى الإنفاق على مشاريع البناء والإعمار. من دعم حكومة أفغانية صُورية تتحالف مع أمراء الفساد والمخدرات، إلى حكومة نزيهة تجعل الحياة والبقاء صعبا على نظام لطالبان، سبق للأفغانيين أن رفضوا جاهليته واستبداده وتزمته.