إنهم يحرسون أوهامنا

TT

من قام بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001 هم قوميون صرب متطرفون. لا بل الموساد الإسرائيلي.. عفوا بل جماعة «السبتيين» في أميركا.. أبدا بل من نفذ الهجمات الرهيبة وكالة المخابرات الأميركية.

وتستمر الاقتراحات والإبداعات الخيالية التي تصب كلها في الهرب من مستحقات الواقع الحقيقية، وهي أن من قام بهجمات 11 سبتمبر هم شباب مسلمون يعتنقون تفسيرا متشددا للإسلام يقودهم أسامة بن لادن، ويشجعهم، وشجعهم حينها، ملايين من المسلمين.

فكرة أن الصرب هم من قام بهجمات 11 سبتمبر انتقاما من تدخل أميركا في حرب الصربيين مع البوسنة والكروات، قالها رمز الصحافيين السياسيين العرب من ذوي الاتجاه العروبي، حسنين هيكل، قالها بعد أيام من حصول التفجيرات (جريدة السفير اللبنانية1 ـ 10 ـ 2001).

وفكرة أن من قام بها هم الموساد الإسرائيلي (الذي هو مصدر كل الشرور والأحداث الغامضة أو التي لا يملك البعض جَلَد البحث والتقصي فيها) هذه الفكرة أو الاقتراح قال به الكاتب الإسلامي فهمي هويدي، معتقدا أن «القاعدة» لا يمكنها القيام بمثل هذه العملية بل الموساد (جريدة الوطن الكويتية 25 ـ 9 ـ 2001).

وفكرة أن من قام بهذه التفجيرات هم جماعة أميركية اسمها السبتيون قال بها صاحب برنامج «العلم والإيمان» مصطفى محمود (الأهرام 22 ـ 9 ـ 2001).

كل هذه الاقتراحات والسيناريوهات تؤشر على مدى تمكن التفكير الرغبوي لدينا، لأن العنصر المشترك فيها كلها هو إلقاء المسؤولية على طرف آخر غير الطرف العربي والمسلم، يعني غير الذات، وأذكر أنه كان هناك من تحدث عن تورط عصابات المخدرات في كولومبيا بهذه الهجمات، المهم أن المتورط جهة غيرنا، حتى لو كانوا الجن الأزرق. وهي اقتراحات لا يكلف أصحابها أنفسهم بالتفكير في الوقائع وتفكيكها للوصول إلى أقرب نقطة من الحقيقة، كما ذكر الباحث صقر أبو فخر في كتابه «الدين والدهماء».

ومن هنا نفهم الحفاوة التي تلقى بها إعلامنا العربي وأنصاف، بل أرباع، مثقفينا هلاويس الصحافي الفرنسي تيري ميسان عن أن ما جرى في 11 سبتمبر مجرد «خدعة رهيبة» قامت بها أميركا نفسها، فقتلت خمسة آلاف إنسان وقصفت مبنى وزارة الدفاع وبرجي التجارة!

إن الغرض الرئيسي من كل هذه الأفكار الالتفافية هو اغتيال الأسئلة وتبرئة الذات الثقافية من المسؤولية، فإذا كان من قام بهذه التفجيرات هم صرب أو موساد أو سبتيون أو عصابات كولومبية أو «سي.آي.إيه»، فإنه لا معنى لمن يطرح الأسئلة علينا عن التطرف وثقافة التعصب والغلو الديني ومراجعة المفاهيم المؤسسة للعنف الديني، وهذا الصداع المستديم من مطارق الأسئلة التي تنزل على عقل المجتمع، الأمر سهل، مع هذه التصورات المؤامراتية، وطرح الأسئلة النقدية حشو و«ترف فكري» لا معنى له، كل ما هنالك أن هناك مؤامرات لا يدري بها إلا العالمون ونحن أمة كاملة ومجتمعات وثقافة وحضارة (أين هي الآن؟!) متعافية، ولكننا مستهدفون ومحاربون ونحن الشغل الشاغل للعالم ويريد قمعنا ومنع نهضتنا وسلب ثرواتنا.. المؤامرة ليست شيئا خياليا ولا فكرة تجريدية، بل هي جزء من عالم السياسة وحصلت في التاريخ وتحصل، وليس الغرض نفي وجودها أو تسخيف أنها قد حصلت في فترات معينة وقضايا محددة، وستحصل، فهي جزء من سلوك الحروب السياسية، وكثيرون في العالم لديهم هوس نظريات المؤامرة، وهناك أفلام وروايات عن هذه الفئة من الناس، التي لا ترى في كل شيء أمامها إلا مؤامرة أو مشروع مؤامرة، ولكنهم في المجتمعات المتعافية من جروح الكرامة وعقد الدور التاريخي وحسرة الفوات الحضاري، لا يمكنون هذا النوع من البشر من إدارة القرارات المهمة والحساسة، بل تُدرس القرارات بكل موضوعية، أو بالقدر الممكن منها، من أجل صيانة الدولة والقرار من تأثيرات عرضية انفعالية. وحتى لو تمكن بعض المهووسين، مثل الصحافي تيري ميسان، من البروز لفترة معينة، كصرعة عابرة، فإنه سرعان ما يذوب في بحر العقلانية الحاكمة، ولكن الحال عندنا عكس الحال عندهم، فلدينا استمرارية دائمة في تمكين هؤلاء والإصغاء إليهم والتعويل على ما يقوله كل من يدغدغ مشاعرنا ويلهب خيالنا بالمثير من المؤامرات، هزيمة 67 مؤامرة خارجية وكذلك عدوان 56 ونكبة 48 وتعيين السادات رئيسا لمصر مؤامرة وغزو صدام للكويت مؤامرة واستدراج واع من الغرب له، وأسامة بن لادن مؤامرة وكل التعصب الديني وعشرات بل مئات الانتحاريين الذين يمطرون أرضنا بالدماء والأشلاء ليسوا إلا أدوات مؤامرة تدار من الخارج (دائما طبيعة ونوعية هذا الخارج يختلف بحسب الظروف والأعداء المرحليين).

هذا النوع من التفكير يعكس حيرة مستفحلة وذعرا دائبا من مواجهة الحقيقة العارية، صحيح أن مواجهة الحقيقة مرة ومؤذية، ولكنها مرارة مؤقتة وأذى سريع الزوال، تحمّله خير وأنفع من اللجوء للمخدرات الفكرية والحيل الهروبية.

هل معنى هذا كراهية الذات والانسلاخ من الهوية والثقافة؟ لا معنى للسؤال هذا، لأنه لا يمكن للإنسان أن ينسلخ من جلده، فلو انسلخ منه لتحول إلى مسخ بغيض أو لربما مات أصلا، فالجلد هو من يحمي الجسد ومعه النفس التي تستخدم هذه الأعضاء.

إذن لا معنى لهذا السؤال الغريب الذي يطرح دائما كلما طرحت فكرة النقد الذاتي، ولو أن مشكلتنا مع طريقة تفكيرنا الحاكمة اقتصرت على تفجيرات 11 سبتمبر، لهان الأمر ولصدقنا نظريات المؤامرة سواء السيناريو الصربي أو الموسادي أو الكولومبي أو حتى الجن الأزرق، ولكن المشكلة معنا لم تتوقف مع حكاية 11 سبتمبر، فقبله وبعده، مررنا بعشرات الأزمات التي أدت بنا إلى هذا الواقع الذي لا أعتقد أنه يسر أي مسلم أو عربي عاقل.

باختصار: الحل، قبل كل كلام واستطراد، إذا لم نغير طريقة تفكيرنا، فإننا سنظل نكرر بشكل عبثي وتراجيدي هذه المحزنات الملهيات، إننا نكرر نفس الكلام عند كل مشكلة، وقد قيل إنك لن تجني نتيجة مختلفة إذا ما كنت تجرب ذات الأسلوب!

أقول هذا الكلام ونحن بعد أيام قليلة نتذكر الذكرى الثامنة لـ11 سبتمبر 2001، ونتذكر كيف احتفل بها وبفعلتها كثيرون منا، في نفس الوقت الذي راجت فيه أفكار المؤامرة والطرف الخارجي، ولا ادري كيف يمكن الفخر بفعلة، وفي نفس الوقت نفرح بمن يقول لنا إن هناك أطرافا خارجية فعلتها وليس نحن!

صدق أبو العلاء المعري حين قال:

في كل جيل أباطيل يدان بها

فهل تفرد يوما بالهدى جيل؟