عصر الأيرلنديين

TT

تسبق وفاة تيد كنيدي نهاية ولاية جون سويني كرئيس لاتحاد العمال الأميركي ومؤتمر المنظمات الصناعية بثلاثة أسابيع بعد أن استمر سويني في منصبه هذا على مدى 14 عاما. وتشير هذه الأحداث سويا إلى انتهاء عهد في التاريخ السياسي الأميركي ذي صلة بالقيادة الأميركية الأيرلندية الأصل للمؤسسات الليبرالية والهيئات التابعة للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.

وبالطبع، كان ذلك عندما كان الحزب الديمقراطي عبارة عن كيانات سياسية داخل المدن الكبرى يشكلها ويقودها أميركيون أيرلنديون؛ وعندما كانت الإدارات الحكومية في بوسطن ونيويورك وفيلادلفيا وشيكاغو وسان فرانسيسكو يديرها أيرلنديون وتعمل من أجلهم؛ وعندما كان يقود النقابات العمالية أيرلنديون، بدءا من فيليب موراي ـ رئيس مؤتمر المنظمات الصناعية ـ وصولا إلى جورج ميني ـ اتحاد العمال الأميركي ومؤتمر المنظمات الصناعية. وخلال العقدين الأولين من القرن الماضي عندما كان أعظم القيادات الأيرلندية الأصل تشارلي موفي، من منظمة تامني هال، يسيطر على الساحة السياسية في نيويورك، أصبحت القيادات الأيرلندية الأكثر ذكاء متمرسة في حشد تحالفات من مختلف الأعراق، وكانت القيادات العمالية الأكثر تقدما تدافع عن العمال بغض النظر عن العرق. وعندما كان تيد كنيدي يتزعم قضية الحرية في أميركا، كان جون سوني يقود حركتها العمالية، ولم يكن هناك أي شيء ذي صلة بالأعراق من بعيد في عملهما السياسي على الرغم من أن ثقافتهما الأيرلندية كانت واضحة للعيان وكان يصعب عدم تميز أيرلندية بوسطن وبرونكس، على التوالي، في خطاباتهما.

ولكن، في الوقت الحالي يصعب أن تعرف رؤساء البلديات والحكام الأيرلنديين الأصل الذين كانون في يوم ما بمثابة العمود الفقري للحزب الديمقراطي. يستمر في شيكاغو نسل دالي ولكن هذا هو الاستثناء، وهناك احتمالية أكبر لأن يكون عمداء المدن الكبرى أفرو ـ أميركيين أو يهودا أو لاتينيين. وبالنسبة للعمال، لا يزال هناك عدد من القيادات الأميركية الأيرلندية من المهن ذات الصلة بالتشييد ولكن يترأس واحد فقط من الاتحادات الكبرى أميركي أيرلندي وهو اتحاد موظفي البلديات والمقاطعات والولايات الأميركي. ويعد رئيس الاتحاد غرالد ماك إنتي، وهو من معاصري سويني، العضو الذي خدم لأطول مدة من المجلس التنفيذي لاتحاد العمال الأميركي ومؤتمر المنظمات الصناعية.

يذكر أنه عندما بدأ الأيرلنديون يصلون بصورة جماعية خلال الأربعينات من القرن التاسع عشر، كانوا يواجهون عداء همجيا من السكان الأصليين البروتستانت وكانوا يضطرون إلى العيش في أحياء خاصة بهم. وبعد عدة عقود في أحيائهم السكنية، اكتشفوا قوة صناديق الاقتراع والتنظيمات السياسية والعمل في المجالس المحلية. وفي أحيائهم المهنية، بالنوم على ممر القطارات والعمل ضمن طواقم التشييد، أصبحوا يمثلون الطبقة العامة الإثنية المميزة الأولى في أميركا التي تحصل على رواتب (وكان الأفرو ـ أميركيين طبقة عمالية مميزة أيضا ولكنهم لم يكونوا يتقاضون رواتب وبعد ذلك أصبحوا يحصلون على رواتب بسيطة). وكانت المجموعات الأخرى المهاجرة في أحياء خاصة بها ووجدت أن الأيرلنديين وصلوا إلى هناك أولا وأنهم أحكموا قبضة على الساحة السياسية داخل النقابات والمدن والولايات على نحو فاق الأيام التي كان الأيرلنديون فيها يمثلون أغلبية واضحة بين ناخبي المدن والعمال من المهن الحرفية.

ولا نحتاج إلى قفزة كبيرة إلى الوراء في تاريخ عائلتي كنيدي وسويني لمعرفة أصول التنظيمات الأيرلندية، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد العمالي. وكان جد السيناتور كنيدي لأمه جون فيتزغيرالد أول عمدة أميركي أيرلندي من السكان الأصليين لبوسطن. وكان والد سويني سائق الحافلة بمدينة نيويورك ناشطا في الاتحاد الذي يتبعه. وتمكن كنيدي من الفوز بدعم الأيرلنديين في ماساتشوسيتس خلال سباقاته الأولى للفوز بمقعد في مجلس الشيوخ على الرغم من أنه فقد بعضا من هذا الدعم عندما كان يحشد الجهود من أجل دمج مدارس بوسطن في مطلع السبعينات من القرن الماضي. وعمل سويني في أول الأمر لصالح اتحاد عمال ملابس النساء الدولي غير الأيرلندي ولكن سرعان ما أصبح قيادي اتحاد خدمات التشييد في نيويورك.

ولا يوجد غموض كبير في تراجع الوجود الأيرلندي في الأدوار القيادية بالحزب الديمقراطي، وبحلول منتصف القرن العشرين، كان الأيرلنديون قد بدأوا يتحولون إلى الضواحي وإلى نطاق من الوظائف أكبر كثيرا مقارنة بما كان عليه الحال بالنسبة لآبائهم وجدودهم. وتزاوج عدد كبير من آخرين. وأصبح الكثيرون منهم جمهوريين. وانهارت التنظيمات الريفية القديمة. وأصبحت النقابات أكثر تنوعا، وكانت أضعف في بعض الأحيان. ولكن حتى مع تراجع الحضور الأيرلندي داخل مؤسسات الحزب الديمقراطي، بقيت القيادة الأيرلندية مرتبطة بجوهر الكثير من هذه التنظيمات، لدرجة أن بعض الاتحادات العمالية في قطاع التشييد التي بها عضوية صغيرة من الأيرلنديين لا يزال بها رؤساء أيرلنديون، ولا يزال ريتشي دالي يترأس على مزيج مختلف جدا في شيكاغو. (هذا الاختلاف في التوقيت مميز للأيرلنديين. ولا تزال نقابة الملابس الأميركية، والمعروفة حاليا باسم «عمال متحدون» وتتبع النقابة الدولية للموظفين الخدميين، يقودها يهود، وهذا هو الحال دوما على الرغم من أنه لا يوجد تقريبا سوى ستة عمال ملابس يهود في الولايات المتحدة حاليا).

وسوف تستمر القيادات الأميركية الأيرلندية في المؤسسات التابعة للحزب الديمقراطي والتنظيمات العمالية في الظهور، ولكن ليس بالضرورة في المؤسسات التي كانت، تاريخيا، أميركية أيرلندية. وخلال الشهر الماضي خلف شخص يدعى مايكل مولغرو من ستاتن أيلاند راندي وينغارتن في رئاسة اتحاد المدرسين المتحد، وهي نقابة المدرسين في مدينة نيويورك. وقد كان وينغارتن الثالث في تسلسل على مدى 50 عاما لشخصيات يهودية في رئاسة اتحاد المدرسين، ولا يعد ذلك شيئا مفاجئا حيث إنه خلال أعوام التأسيس كانت النقابة يهودية في جوهرها. ومع قيادة مولغرو حاليا لنقابة المدرسين، يصبح السؤال: متى سوف تدير امرأة يهودية الأعضاء المحليين في إحدى نقابات التشييد بنيويورك؟

وربما سيكون كنيدي وسويني آخر قياديين أميركيين أيرلنديين بارزين يرتقيان ما كانت توصف بأنها مؤسسات أميركية أيرلندية. وانتهى المطاف بالاثنين بأن عاشا أطول من هذه المؤسسات بعقود، ولكن مرر الاثنان أفضل ما لدى الإرث الأميركي الأيرلندي في عملهما، وتمثل ذلك في الرغبة في تحقيق العدالة وميلهما للمنبوذين وإحساسهما القوي بالطبقية. وفي هذا الإطار، فإن أميركا خلال حقبة تيد كنيدي كانت مكانا يعامل الجميع فيه على أنهم أيرلنديون ولهم الحق في المحاولة، وقد كان هذا هو واجب الحكومة لتقديم ذلك.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»