الابتسامات المصطنعة.. والصعوبات القاتلة!

TT

سريعا وصلت سفن الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أرخبيل الصخور الإسرائيلية. لن يمضي وقت طويل قبل أن يتأكد بصورة قاطعة، أن مبادرة الرئيس الأميركي للتسوية في الشرق الأوسط، كانت بمثابة غمامة صيف ومضت، وأن التعنت الإسرائيلي سيظل يلهب المنطقة والعالم بالعداء والكراهية ويستنسخ الصراعات والحروب.

كان من المقرر أصلا أن يعلن أوباما مبادرته نهاية حزيران (يونيو) الماضي. لكن ظروف الاتصالات بين واشنطن وتل أبيب لم تكن قد توصلت إلى ما يساعد على هذا الأمر، لأن حكومة المتطرفين اليمينيين في إسرائيل كانت قد تسلمت السلطة للتو.

من حزيران إلى أيلول (سبتمبر) عقدت أكثر من دزينة من الاجتماعات الأميركية ـ الإسرائيلية على مستوى القمة وكذلك من خلال الموفد السناتور جورج ميتشيل، وتخلل هذا الشريط المحموم من المساعي إنزال أميركي سياسي ـ ديبلوماسي ـ أمني حمل أكثر من سبعة من كبار المسؤولين الأميركيين إلى تل أبيب في أقل من أسبوع واحد.

ماذا كانت النتيجة؟

جدال طويل عريض حول مسألة وقف الاستيطان، التي تنص عليها «خارطة الطريق» وتعتبرها مدخلا إلى الشروع في التسوية، ولكن من دون جدوى تقريبا!

والمعروف حتى الآن، أن أوباما فشل في إقناع إسرائيل بوقف الاستيطان رغم أنه كان يطالب به بداية وبكثير من الإصرار والتشدد. على العكس من ذلك، استطاع بنيامين نتنياهو، أن يفرض على الإدارة الأميركية صيغة ملغومة، عندما أقنع أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بنظرية إيهود باراك، التي تدعو إلى «التبادلية» في إثبات النيات الحسنة، أي وقف مؤقت للاستيطان وافقت واشنطن أخيرا على أن يستمر لمدة تسعة أشهر (!) مقابل قيام عدد من الدول العربية باتخاذ إجراءات للتطبيع مع إسرائيل!

وإذا كان الالتباس قد أحاط حتى الآن بالنتائج التي توصلت إليها المساعي الأميركية الماراثونية مع نتنياهو وزمرته، وكذلك بالنتائج التي يمكن أن تصل إليها، فإن الخيبة أحاطت عمليا بالاتفاق على «وقف» الاستيطان، بمعنى أنه ليس هناك من وقف حقيقي للاستيطان. ففي الضفة الغربية تباطأت حركة التوسع نسبيا، أما في القدس فقد رفض نتنياهو كل حديث عن وقف أعمال البناء قائلا، إن القدس ليست مستوطنة بل هي عاصمة إسرائيل الأبدية!

إذا ماذا فعل الرئيس الأميركي وما هو «الإنجاز» الذي توصل إليه جورج ميتشيل؟

عمليا لا شيء تقريبا. وهكذا ليس واضحا حتى الآن ما هي عناصر المبادرة التي يتردد أن أوباما سيعلنها في خطابه خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وان كان من شبه المؤكد أنه سيدعو إلى عقد اجتماع على غرار مؤتمر مدريد بمشاركة الرباعية الدولية (أميركا ـ الأمم المتحدة ـ أوروبا ـ روسيا)، لإحياء المفاوضات على كل المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية.

ثم إنه من غير الواضح أيضا، ماذا يمكن أن ينتج من القمة الثلاثية، التي ستجمع على هامش الجمعية العامة بين أوباما والرئيس محمود عباس ونتنياهو، طبعا باستثناء التقاط الصورة وما فيها من ابتسامات مصطنعة تخفي وراءها جبلا من الصعوبات التي يواجهها أوباما ومن الخيبات التي يراها عباس، ومن التعنت الذي يثيره نتنياهو.

لماذا وصلت سفن أوباما سريعا إلى الصخور الإسرائيلية؟

بالتأكيد لأنه لم يتعلم من تاريخ العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية، ان واشنطن لا تستطيع أن تقنع تل أبيب بالاستجابة مطالبها حيال التسوية إلا من خلال الحزم وعدم التردد في ممارسة أقصى الضغوط.

وإذا كان أوباما قد تعلم فعلا أن أخطاء سلفه جورج بوش، قد زادت من نسبة الكراهية لأميركا في العالمين العربي والإسلامي، وهو يحاول الآن تصحيح هذه الأخطاء والتقرب من شعوب المنطقة، إلا أنه لم يلاحظ أن فشل بوش في إحراز أي تقدم نحو ما سمّي «رؤية بوش» عام 2003، أي قيام الدولتين كأساس للحل في الشرق الأوسط، إنما كان نتيجة عدم قبول إسرائيل بشروط السلام العادل والشامل، الذي وضعت «المبادرة العربية للسلام» أسسا موضوعية وواقعية له، من خلال اعتماد قرارات الشرعية الدولية، ومبدأ الأرض مقابل السلام، قاعدة ومنطلقا لأي تسوية عادلة وشاملة ودائمة.

وإذا كان أوباما قد أراد في بداية عهده أن يحدث انعطافا في وتيرة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بما يساعده على إنجاز الحل الذي يعجز عنه العالم منذ ستة عقود، فقد كان عليه أن يلتقط مبادرة خادم الحرمين الشريفين التي أجمع عليها العالم العربي، ويعتمدها أساسا للحل وعلى قاعدة مدريد، أي الأرض كل الأرض، في مقابل السلام.

وما لم يتعلمه أوباما من تاريخ العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية يتمثل في درسين أساسيين تمكنت واشنطن عبرهما من ليّ ذراع تل أبيب.

الدرس الأول جاء على يد الرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور عام 1956 عندما ضغط على رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير وأجبرها على الانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر.

أما الدرس الثاني فقد جاء على يد الرئيس جورج بوش الأب، عندما قام وزير خارجيته جيمس بيكر برفض إعطاء ضمانات قروض قيمتها 10 مليارات دولار لإسرائيل، كان وزير الاستيعاب والهجرة آنذاك آرييل شارون سينفقها عام 1992 على الاستيطان!

في الدرس الأول انسحبت مائير من سيناء باكية. وفي الدرس الثاني رضخت حكومة مناحيم بيغن لشروط «كامب ديفيد» وفككت المستوطنات في سيناء.

عندما جاء أوباما إلى إسرائيل بعد انتخابه رئيسا نشرت مقالات عدة في بعض الصحف الإسرائيلية تحضه على استعمال الحزم مع نتنياهو إذا كان يريد فعلا أن ينجز مبادرة ناجحة للتسوية وإنهاء النزاع العربي ـ الإسرائيلي. صحيفة «هآرتس» دعته إلى استعمال العصا وإلى ليّ ذراع نتنياهو وليبرمان.

ولكن من الواضح تماما منذ ذلك الحين حتى الآن، أن الذي استعمل العصا وبنجاح هو نتنياهو، وقد نظم حملة صهيونية مزدوجة نجحت في تطويق أوباما وتعطيل اندفاعته السلمية في المنطقة، وذلك عندما حرك مئات من أعضاء الكونغرس وداخل الحزب الديموقراطي الأميركي ضد أوباما، وقد دعوه إلى عدم ممارسة الضغوط على إسرائيل. وواكبت هذه المواقف حملة إعلامية شعواء كادت أن تتهمه بـ«اللاسامية».

في استطاعة الرئيس الأميركي الآن أن يكتشف مدى تراجعه عن مواقفه المعلنة سابقا، وخصوصا عندما نتبين أنه في مقابل وعد بوقف مؤقت للاستيطان وهو غير مضمون، يريد نتنياهو أن يحصل على التطبيع من عدد من الدول العربية، وهو الأمر الذي رفضته السعودية بحزم على لسان وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل عندما أعلن ذلك صراحة في المؤتمر الصحافي المشترك مع هيلاري كلينتون في واشنطن.

وأيضا هو الأمر الذي سيؤدي إلى فشل مبادرة أوباما!