كذب الاقتصاديون مرة أخرى!

TT

بعد فترة قصيرة أو أيام قليلة على وجه التحديد سوف يكون قد مر عام على الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث كان مولدها رسميا هو الخامس عشر من سبتمبر من العام الماضي عندما حدث الانهيار الكبير في أسواق المال في نيويورك، ومن بعدها جرت الانهيارات كما تجرى النار في الهشيم في بقية الأسواق الأمريكية ومن بعدها العالمية. وكما هي العادة فإن أسواق المال لم تكن أكثر من مرآة للاقتصاد، فبدأت عمليات الانهيار المتوالية في شركات كبرى، ومعها أسواق العقارات والسيارات والنفط، حيث هبط سعر البرميل من البترول من 147 دولارا إلى 34 دولارا خلال فترة قصيرة. وبدأت دول مختلفة في شرق العالم وغربه تعلن عن دخولها في مرحلة الانكماش الاقتصادي، وارتج الكون الاقتصادي العالمي كما لم يرتج منذ وقت طويل، ولم يجد السياسيون مخرجا إلا بوصف الأزمة الاقتصادية العالمية بأنها الأسوأ منذ «الكساد العالمي» خلال الثلاثينات. وهكذا جرى الجميع إلى كتب التاريخ بحثا عما جرى، ومقارنته بما يجرى، والبحث في الأسباب وما سوف يترتب على النتائج، وخلال هذه المرحلة تم بعث الدولة من رقادها، وشعر الاشتراكيون وأنصار تدخل الدولة بانتعاش كبير بعد فترة طويلة من الاكتئاب واليأس منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي من ورائه.

أيامها كتبت هنا في «الشرق الأوسط» مقالا بعنوان «كذب الاقتصاديون ولو صدقوا» كنت فيه غاضبا على علماء الاقتصاد، وحتى على علم الاقتصاد نفسه، ليس فقط لأنه فشل في التنبؤ بالأزمة ـ اللهم إلا من قلة مثل كروجمان ـ ولكن لأنه خلال عام واحد كان عاجزا عن فهم ما يجرى في السوق العالمية. وبينما سار في تفسير ارتفاع الأسعار وأزمة الغذاء خلال النصف الأول من عام 2008 في اتجاه استمرارهما مقدما تفسيرات «اقتصادية» لذلك، فإنه سرعان ما تغير الموقف إلى العكس تماما خلال الربع الأخير من نفس العام. وبعد فترة ليست بعيدة طرحت مجلة «الإيكونوميست» اللندنية نفس القضية عما إذا كان علم الاقتصاد ما زال علما أو لا، وكان استنتاجها أنه لا يزال علما بالمعنى الكلى، ولكنه فشل تماما فيما يتعلق بالاقتصاد الجزئي أو Microeconomics. وبالنسبة لي فلم يكن الأمر شكا في الاقتصاديين أو علم الاقتصاد بقدر ما كان شكا في القدرة على فهم التغيرات العالمية الجارية التي جعلت كل القواعد التي تعلمناها حول حركة العالم والاقتصاد فيه تحتاج إلى مراجعة كبرى.

شيء من هذا تكرر مرة أخرى خلال العام الذي جرت فيه الأزمة، حيث اشتطت التوقعات والتنبؤات، ولم يكن التطير راجعا لحالة الاقتصاد العالمي وحده، ولكن أضيف له مزيد من البراهين والتخوفات على حالة الاحتباس الحراري في العالم، وبالنسبة لنا في مصر فقد أصبحت مسألة غرق نصف الدلتا المصرية كنتيجة لذلك في المستقبل غير البعيد مسألة مقلقة، وكأن كل ذلك لم يكن كافيا فقد جاء وباء إنفلونزا الخنازير لكي يشغل الساحة الصحية في العالم حتى قبل أن تنتهي غمة إنفلونزا الطيور. وببساطة عاش العالم حالة من التشاؤم قاسية، ووجدت الحكومات الفاشلة سببا تغطى به فشلها، فمن الذي يستطيع التغلب على أزمة عالمية بهذا الحجم؟ وفى البلدان العربية كان للانخفاض الحاد في أسعار النفط نتائج مباشرة، فلم تعد «دبي» متلألئة كما كانت وخفتت أنوارها ليس فقط عمليا ولكن كتجربة عربية في التنمية تدعو إلى التقليد؛ ومن بعدها بدأت «العمالة» العربية في بلدان النفط تعود مرة أخرى إلى بلادها حاملة أنباء مشؤومة عن الدول التي تركتها والدول التي عادت إليها. وكما حدث في بقية العالم جرى مثله في البلدان العربية حيث انتعش أنصار تدخل الدولة، وسادت تعبيرات «ألم نقل لكم» لتغطية هيمنة دول وحكومات كانت موجودة بالفعل وزاد عليها هذه المرة شعور متزايد بالحكمة الزائفة.

ولكن المفاجأة كانت أن «الأزمة» على شدتها لم تكن بمثل هذه الحالة من البؤس التي جرى تصويرها بها، ولو كان للأزمة فضل واحد وهو الإطاحة بإدارة الجمهوريين في الولايات المتحدة وإحضار إدارة باراك أوباما إلى البيت الأبيض لكان لها فضل عظيم. ومع ذلك فإن للأزمة أفضالا أخرى أهمها أنها لم تستمر على حدتها لسنوات طويلة كما حدث خلال «الكساد العظيم» فقبل أن ينتهي عام الأزمة كانت اقتصاديات الصين والهند تشهد انتعاشا عظيما، وخلال الربع الأخير من العام المالي المنصرم حققت الصين معدلا للنمو قدره 14.2% وهو معدل غير مسبوق، وبدأت اقتصاديات هامة في الخروج من الأزمة الاقتصادية مثل الاقتصاد الألماني والفرنسي وعددا من الدول الآسيوية حينما حققت معدلا إيجابيا للنمو، وبدأت أسعار النفط في الارتفاع مرة أخرى حتى وصلت إلى 76 دولارا للبرميل وهو ما يعنى عودة ارتفاع الطلب ـ أو التنمية الصناعية في الحقيقة والنمو الاقتصادي ـ في الحقيقة. وحتى في حالة الاقتصاد الأمريكي الذي لا يزال قلب الاقتصاد العالمي، فرغم أنه لم يخرج من الانكماش الاقتصادي، فإن كل المؤشرات من أول انتعاش البورصة وحتى معدلات البطالة وعودة الشركات المفلسة إلى عملها مرة أخرى وتسديدها لديونها خلال فترة وجيزة تبدو مبشرة بخروج مبكر من الأزمة وتجعل فكرة «الكساد العظيم» ـ كما كانت ـ جزءا من الماضي.

وهكذا فشل الاقتصاديون وعلم الاقتصاد مرة أخرى، وهو فشل محبب هذه المرة، في التعامل مع الأزمة الاقتصادية. وفى التقدير أن ذلك يعود لنفس الأسباب وهى الفشل الكبير في إدراك المتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية الجارية في العالم المعاصر خاصة تلك المتعلقة بانتقال عناصر الإنتاج. وبشكل عام فإن العالم لم يعد ساكنا كما كان في زمن الثلاثينات، وكان بوسع الحكومة الصينية من خلال سياسة للتعميق الاقتصادي أن تتوسع في عمليات التنمية الداخلية مما وسع من السوق الصينية على جانبي الإنتاج والاستهلاك حتى باتت الصين عامل جذب للاقتصاد العالمي للخروج من الأزمة. ولم تكن الصين وحدها في الساحة بل انضمت إليها الهند، ومن ورائهما عدد من الدول الآسيوية التي كان قد تم إصلاحها ماليا قبل الأزمة بقليل وكانت جاهزة لطفرة جديدة من النمو بات يعوقه انكماش السوق الأمريكية والأوروبية، وهكذا بات الحل هو البحث عن أسواق جديدة ومستهلكين جدد وهو ما جرى بالفعل من خلال التعميق الاقتصادي الداخلي. وجاءت حزم التحفيز المختلفة التي قامت بها الحكومات على اختلاف أنواعها لكي تعطي الأسواق السيولة المالية المطلوبة لدوران رأس المال وحركة الاستثمار.

وفى بعض الأحيان فإن ما كان وبدا سلبيا في البداية سرعان ما ظهر أن له نتائج إيجابية لم تكن متوقعة، وعلى سبيل المثال فإن عودة بعض المصريين المهاجرين بسبب الأزمة الاقتصادية سواء من الدول العربية أو الدول الأجنبية لم تكن كلها سلبية، حيث عاد هؤلاء ومعهم أموال كافية لكي تنعش أسواق الاستثمار والسكن والسياحة وتعوض قدرا غير قليل من الخسارة الناجمة عن الأزمة العالمية. وبعد أن كانت المؤسسات الدولية تقدر أن الاقتصاد المصري سوف ينمو بمعدل قدره 3.2% خلال العام 2008/2009، فقد نما الاقتصاد بنسبة 4.7% وكان ذلك عائدا إلى حد كبير إلى قطاع التشييد والبناء الذي ظل على معدل من النمو قدره 14% جاء 60% منها من البناء العائلي، وجاء الباقي من حزمة التحفيز الحكومية والاستثمارات الأجنبية التي تعدت ثمانية مليارات من الدولارات.

كل ذلك لا يعنى أن علينا التخلص من الاقتصاديين أو من علم الاقتصاد، فمن الواضح أنه لا يزال هناك فائدة في التعرف على الآليات الجديدة للاقتصاد العالمي من خلال البحث في أسباب فشل علم الاقتصاد في التنبؤ بالأحوال الاقتصادية العالمية. وما جرى خلال العام الماضي فيما يخص نشوء الأزمة، وما سوف يحدث في العام الحالي فيما يخص نهايتها، ربما يظل دليلا على حاجتنا للعلم وتطويره وتعميق المتغيرات والعوامل والعناصر التي يقوم عليها.