الخاسر يكسب

TT

إليكم هذه الحكاية التي أعتقد بل أجزم أنها خيالية، ولكن الخيال أحيانا يكون مسلّيا، خصوصا إذا كان الواقع يغم ـ مثلما تشاهدون في عالمكم العربي الذي يرقص كالقطة على صفيح ساخن.

يقال إن هناك شيخاً أعرابياً من سكان ضواحي مكة، له ابنان شغوفان بركوب الخيل، ولهما حصانان وكل واحد منهما يدعي أن حصانه أسبق من حصان أخيه.

وقد كثرت مجادلاتهما وتحدياتهما، فما كان من والدهما بعد أن ضاق ذرعاً بـصياحهما وإزعاجاتهما، إلا أن طلب منهما أن يـخضعا للاختبار العملي، بدلا من الجدل (البيزنطي) والادعاءات الفارغة.

وقال لهما: إن هذه المزرعة الكبيرة التي أمتلكها سوف أضعها جائزة في سباق يكون بينكما لنعرف سرعة وقوة تحمل حصانيكما.

والجائزة أو المزرعة سوف تكون ملكاً خالصاً لمن يخسر جواده في السباق الذي سوف تكون مسافته من مكة إلى المدينة، وأعطاهما مهلة شهر واحد في الذهاب والإياب وقال: إذا مر ذلك الشهر دون حسم، فليس لكما غير التراب (لأدحوه في فمكما) - على حد تعبيره - وأسقط في يد الولدين واشتدت حيرتهما التي تحولت إلى مشكلة، فكيف يخسر الواحد منهما في السباق إذا كان الآخر يريد هو أن يخسر كذلك، حاولا مع والدهما بشتى الوسائل أن يقلب المعادلة، وتكون الجائزة من نـصيب من كان جواده أسرع، غير أن الأب رفض ذلك بإصرار إلى درجة أنهما شكّا في أن والدهما قد وصل إلى مرحلة الخرف، ولولا أنهما يعرفان تدينه وتقواه لاتهماه بأنه قد تعاطى ما يذهب به عقله - أي من المشروبات المحرمة أو ما شابهها.

وعندما يئسا تماماً استسلما، وانطلقا يكبحان جواديهما بـبطء شديد، وكلما استدار أحدهما بجواده قفل الآخر راجعاً، ومر عليهما وهما على هذه الحال أكثر من خمسة عشر يوماً وهما لم يتجاوزا ربع المسافة.

وعندما وصلا إلى إحدى المحطات ليلا وقد أعياهما التعب من كثرة الكر والفر والذهاب والإياب والدوران حول الأماكن، وجدا في تلك المحطة شيخاً عجوزاً تجاذبا معه أطراف الحديث وبثاه متاعبهما، وذكرا له شرط والدهما التعجيزي وهما الآن في حيرة من أمرهما، خصوصاً أن الوقت يمضي بسرعة.

فقال: ما رأيكما أن تتفقا على أن يسبق أحدكما الآخر، والذي يتأخر سوف يكسب المزرعة وبعدها تتقاسمانها، فقالا إن والدنا فطن إلى أننا قد نلجأ إلى هذه الطريقة، وعلى هذا الأساس هو أقسم بالله أنها لن تكون إلا لمن خسر السباق فعلا، فقال لهما الشيخ: إذن دعوني أفكر وعند الصباح سوف أجد لكما حلا إن شاء الله، وبعد صلاة الفجر أخذ الأول وهمس في أذنه، ثم همس في أذن الآخر نفس الشيء، ففرحا وعانقاه، وأسرجا الجوادين اللذين انطلقا بأقصى سرعتهما، ووصلا المدينة ثم رجعا إلى مزرعة والدهما بمكة قبل أن ينقضي الشهر، وعندما وصلا كان والدهما نائماً، وفي الصباح سلما عليه ورحب بهما وسألهما عن الخاسر، فادعى كل واحد منهما أنه الخاسر، وعندما استفسر منهما عن هذه المغالطات، اتضح أنهما أخذا بنصيحة الشيخ العجوز بأن يركب كل منهما جواد الآخر، وبهذا يكون كلاهما خاسرين، إما عن طريق الحصان أو عن طريقه هو شخصياً.

عندها استشاط والدهما غضباً واعتبر أن ما أقدما عليه إنما هو خداع واستخفاف بعقله، فما كان منه إلا أن يحثو التراب في وجهيهما ويطردهما، ثم يبيع المزرعة ويتصدق بثمنها.

ولا أدري إلى الآن هل ذلك الأب كان مخرّفاً حقاً، أم أنه كان يتعاطى ما لا تحمد عقباه؟!