شوارعنا: طريق الآلام!

TT

كنت أسكن في حي الزمالك شارع الأمير حسين في قصر نعمت هانم يكن، وكان والدي يعمل مفتشا لزراعتها. وماتت الأميرة وانتقلت إلى السكن في مدينة إمبابة ـ انتقلنا من الدار إلى النار!

وبيني وبينك لم أعرف معنى الزمالك ولا معنى الإقامة فيها. فقد جئت من الريف إلى المدينة.. إلى أجمل أحياء مصر وأشيكها وأهدئها وأعلاها. وأكذب لو قلت إنني أدرك شيئا من هذا الجمال، وإذا كنت تريد أن تعرف صورتي عندما كنت طالبا أربع سنوات: صورة بقرة أو جاموسة غطوا عينيها وتركوها تدور في الساقية. فقط أتحرك من الزمالك في الترام إلى الجامعة. لا رأيت الشارع ولا فكرت في أن أرى حي الزمالك. فقط من مكتبة الجامعة إلى قاعة المحاضرات إلى البيت. وفي الترام أقلّب في الكتب فلا رأيت الشارع ولا الأشجار على النيل.. لا شيء وإنما أنا أعمى وأطرش وأخرس..

ولما انتقلت إلى إمبابة كان طريقي إلى البيت يمر بالحقول.. الشارع تراب.. وأحيانا طين, كان ترابا وسوف يصبح مستنقعا في أي يوم..

وفى الليل لا بد أن أخترق الشارع في الحقول المظلمة ونباح الكلاب القريبة والبعيدة ولا أعرف إن كانت قريبة أو بعيدة ولكنها مخيفة.. وفى منتصف هذا الشارع توجد الأفران التي توضع فيها آنية الفول المدمس.. وهذه الأفران تلقي برمادها في الطريق.. تنشره أسود في سواد الليل..

ولكن هذه الأتربة السوداء إذا مشيت فوقها أطلقت شررا.. فهي رماد لم يخمد تماما.. فالليل أسود مخيف، والأرض تطلق صواريخ من النيران مخيفة أيضا. وروائح الماء العطن المليء بالضفادع.. ولم يصبني بشيء إنما يحرق حذائي.. وأحيانا يقفز الشرر إلى الجورب وإلى البنطلون. ولا يوجد طريق آخر.. ولا يؤنسني من هذه الوحشة إلا كلبي الذي شم رائحتي فراح ينبح، وصرت في الظلام أحسب كم بقي من الشارع كلما أدركت أن نباح كلبي صار أقوى وأوضح.. وهذا العذاب كل يوم!

يتبع