صورة أم عبد الله

TT

مرَّ عام على غياب عبد الله الجفري، السيد والأستاذ. وقد كان من علامات الرحابة في جدة. كان من علامات المرحلة التأسيسية في الصحافة السعودية، ووجها من وجوهها العاملة والتطويرية. وترك أعمالا كتابية وأدبية كثيرة، أمتعها بالنسبة إلينا، الصحافيين، «مشواري على البلاط» (الذي أصدره ومؤلفات أخرى للجفري الأستاذ عبد المقصود الخوجة صاحب «الإثنينية») ويقصد بلاط الصحافة ساخرا من الفارق بينه وبين البلاط الملكي، فقد عاش «عليه» لا فيه، مشى على برودته وعلى حره، معذبا منذ العام الأول. فقد حل به يتم الأم وهو في العام الأول. وعاش عمره يبحث عن وجهها. لم تكن لها صورة في البيت لأن الصور كانت ممنوعة. ولم تكن لها لوحة فالبيت بسيط. وهكذا أمضى طفولته يبحث عنها في وجه عمته التي ربته: «أتأمل وجهها وأتخيل وجه أمي».

كان يتمنى أن يتفرغ للأدب، لكنه اضطر أن «يقتات من الحرف». وحرف القوت في الصحافة وليس في الأدب. وبدأ مشواره الصعب في مكة والصحافة السعودية يومها جنين ينتظر لحظة الضوء. وذات يوم أضرب الصحافيون المصريون في الصحيفة التي يعمل فيها، فجف الحبر وابيضّ الورق وتوقفت الآلات الطابعة عن ضجيجها الممتع.

يروي عبد الله الجفري حكاية الصحافة العربية تقريبا في كل مكان. مرحلة كان فيها الصحافي رمز الفقر وعلامة المساكين في الناس. إنها مهنة الذين لا يجدون مهنة أخرى. لكنه انتقل معها، وبها، إلى المرحلة التي صارت فيها الصحافة مهنة الحالمين لا اليائسين ولا المتبطلين.

دعوت الراحل شفيق الحوت مرة إلى الغداء، وعندما عرف أن المطعم يملكه شقيقي، قال ضاحكا: «لم أكن أعرف أنك محنك إلى هذه الدرجة: تختار مهنة الجوع وتختار لأخيك مهنة يطعمك منها».

يغلف حزن واضح ومرارة ساخرة صفحات «مشوار» عبد الله الجفري. يلاحقه هاجس الحزن وتلازمه صورة النشأة في بيت فيه خالة طيبة وحنونة لكنها، مهما بلغت، فلن تكون أمّا. ويؤلمه أن يدرك ذلك يافعا، وأن يعاني شابا، وأن تستمر آلامه وقد بدأ يخطو نحو الشيخوخة وتزحف هي إليه. لذلك يبحث عن شيء من العلاج، وليس الشفاء، من السرد والشكوى. وهو سرد يشبه المواويل، ففيه دائما عودة إلى مكة، إلى العام الأول من دون أم، إلى الطيبين وعمَّال الأعمال الحسنة، إلى الخيرين في الحارة، ثم إلى الرفاق، وقد صار بعضهم فيما بعد أعلاما ثقافية وصحافية، في مقدمهم محمد عبده يماني.

رحلة في الحياة وفي الصحافة. من حارات مكة إلى فليت ستريت، حيث بدأت «الشرق الأوسط» في الصدور. ثم تنقل، كاتبا وصاحب زاوية، في الصحف السعودية. وكان يأخذ معه قراءه ومحبيه. لكنه لم يترك يوما حلقة الأصدقاء والرفاق، الذين كانوا مثل سوار الحياة من حوله. لم يتركهم، وإنما غاب عنهم ذات يوم، حاملا بهدوء جسده الناحل وقلمه السيال وصورة متخيلة لأم عبد الله.