سلام من.. أولا؟

TT

لم يعد منطق «ضربني وبكى وسبقني واشتكى» جزءا لا يتجزأ من دبلوماسية إسرائيل، بل جزءا عضويا من الذهنية الإسرائيلية في التعامل مع العالم أجمع، وليس مع العرب فحسب.

إسرائيل تملك ترسانة من الرؤوس النووية وتطالب العالم العربي ـ الخالي الوفاض نوويا ـ بضمان «أمنها» القومي.

إسرائيل تحتل أراضي عربية وتخضع الفلسطينيين لحكم عسكري يبز أكثر الأنظمة الاستعمارية استبدادا.. ولا تتوقف عن اتهام العرب والفلسطينيين بتشكيل خطر على «أمنها» في المنطقة.

إسرائيل تتحدى الأسرة الدولية كلها في الإصرار على تنفيذ خطط الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضاربة عرض الحائط بكل الضغوط الخارجية، بما فيها الأميركية.. وتطالب العرب بالبدء بـ«تطبيع» علاقاتهم معها ـ وعلى رأس قائمة التطبيع إزالة أي تهديد لأمنها، سواء جاء من السلطات أم من المقاومة ـ كبادرة «حسن نية» تشجعها على الدخول في مفاوضات سلام معهم.

أما راعية السلام، الولايات المتحدة، فلا ترى في ذلك «تشاطرا» على السلام فتساهم بدورها في دعوة العرب، بلسان وزيرة خارجيتها، هيلاري كلينتون، إلى «اتخاذ تدابير لتحسين العلاقات مع إسرائيل، وإعداد الرأي العام لديها لتقبل السلام وتقبل مكانة إسرائيل في المنطقة» (كما أعلنت أمام مجلس العلاقات الخارجية في منتصف يوليو «تموز» الماضي).

هل كتب الاحتلال والدلال على إسرائيل.. وعلى العرب استجداء السلام؟

بعد مطالبة هيلاري كلينتون العرب بتقديم «مبادرة» حسن نية حيال إسرائيل، وبعد قرار بنيامين نتنياهو إعطاء «الضوء الأخضر» لبناء المئات من المساكن في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة، لم يعد السلام بحاجة إلى تفاوض بل إلى تسليم الجانب العربي والفلسطيني، رسميا، «بالأمر الواقع» الاحتلالي.. عل نتنياهو يمن على الفلسطينيين بما لا يغضب المستوطنين من «تنازلات» لا تصل إلى حد الموافقة على مشروع السلام المنشود عربيا ودوليا.

من هنا أهمية معرفة سلام من تسعى إليه واشنطن: سلام إسرائيل فحسب أم سلام المنطقة ككل؟

إذا كان سلام إسرائيل أولا، فقد بات واضحا من تصرف حكوماتها منذ توقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» ووادي عربة، أن السلام التعاقدي مع من بقي من «الجبهة العربية» خارج الاتفاقيتين المذكورتين هو آخر همومها.

مع هؤلاء العرب تريد «أمنا»، لا أكثر ولا أقل، انطلاقا من قناعة استراتيجية بأنهم أضعف من أن يتوصلوا ـ على المدى المنظور على الأقل ـ إلى قلب ميزان القوى القائم معها.. طالما استمر «السلام» على جبهتيها الجنوبية والشرقية.

لذلك، وكما لم يعد خافيا على إسرائيل، أصبحت المقاربة العملية لسلام الشرق الأوسط، بالنسبة لهذا الجانب العربي، حرمان الدولة العبرية من هاجسها الأول، الأمن، فبقدر ما ينجح العربي والفلسطيني غير الملتزم بعد باتفاقات سلام مع إسرائيل في ربط توق إسرائيل إلى الأمن باتفاقية سلام خطية.. بقدر ما ينجح في دفعها دفعا إلى طاولة المفاوضات.

أما إذا كانت واشنطن تتوخى سلاما يعم الشرق الأوسط بأكمله، ويقطع الطريق على تنامي التيارات المتشددة التي تدرجها في خانة «الإرهاب» وتورطها في حروب مفتوحة في المنطقة، فلا مفر عندئذ من أن تأخذ في الحسبان معطيات سياسية واستراتيجية تتجاوز متطلبات «أمن» إسرائيل الضيقة إلى مصالحها الأوسع في الشرق الأوسط كدولة عظمى.

ولأن استقرار دول الشرق الأوسط الموصوفة بـ«المعتدلة» هو المدخل الطبيعي لاستقرار المنطقة والمعطى الأبرز لصيانة المصالح الأميركية فيها، أصبح انحياز واشنطن إلى مصالحها الاستراتيجية والنفطية مرتبطا، إلى حد كبير، بإزالة كل ما من شأنه أن يثير في عواصم الدول العربية وشوارعها مشاعر غبن قد تنجم عن سلام غير منصف للعرب.

.. ربما كان تخوف نتنياهو من تقديم واشنطن مصالحها الذاتية في الشرق الأوسط على مصلحة «أمن» إسرائيل أحد دوافع سعيه لانتزاع ما أمكن من «تنازلات» من الجانب العربي، قبل الجلوس على طاولة التفاوض على السلام.