استقطابات تشكيل الحكومة في لبنان والصراع على الجنرال

TT

لقد كان مشهدا شديد الإيحاء وبالغ الدلالات، مشهد ذهاب أقطاب المعارضة اللبنانية يقودهم هذه المرة جبران باسيل ـ صهر الجنرال عون ـ إلى القصر الجمهوري الصيفي ببيت الدين؛ وذلك لإبلاغ رئيس الجمهورية بأن المعارضة ترفض التشكيلة الحكومية التي عرضها سعد الحريري رئيس الحكومة المكلف. أما سبب الرفض المعلن فهو أن التشكيلة تخلو من اسم جبران باسيل وزيرا للاتصالات. وكان حزب الله وحركة أمل قد أعلنا بالفعل خلال الأسبوعين الأخيرين أنهما لن يقبلا إلا ما يقبل به الجنرال، وها هما يذهبان إلى رئيس الجمهورية يقودهم السيد باسيل ـ الذي لم ينجح في الانتخابات اللبنانية الأخيرة ـ ليرددوا من ورائه ما سبق أن أعلنوه من قبل!

والواقع أن مخاض تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة، حكومة ما بعد الانتخابات، مر بأربع مراحل حتى الآن. في المرحلة الأولى، وبعد أن كلفت الأكثرية النيابية سعد الحريري بتشكيل الحكومة، انصرف الرئيس المكلف لمفاوضة حزب الله وحركة أمل، في الوقت الذي كانت هناك اتصالات سعودية ـ سورية لتسهيل التشكيل من جهة دمشق. وبالفعل فقد بلغت تلك المرحلة ذروتها بإعلان الأمين العام لحزب الله عن الاتفاق مع الرئيس المكلف على إقامة حكومة الشراكة الحقيقية، وإعلان سورية عن العمل على تسهيل الحكومة العتيدة، والترحيب باستقبال سعد الحريري بدمشق. ثم حدث «اضطراب» غريب بعض الشيء، فقد زار الأمين العام لحزب الله سورية من جهة، وتوقفت الاتصالات السعودية ـ السورية من أجل لبنان؛ من جهة ثانية. ودخلنا في المرحلة الثانية وهي مرحلة «الفوضى» التي أحدثها انشقاق النائب وليد جنبلاط عن الأكثرية بزعامة سعد الحريري، ذاهبا في الوقت نفسه باتجاه حزب الله، ثم باتجاه سورية، وأظهر الطرفان السوري والمعارضة اللبنانية الحبور والسرور، بضياع حظوظ الأكثرية لأنها لم تعد كذلك. وإذا كانت المرحلة الأولى تعتبر إنجازا للرئيس المكلف؛ فإن المرحلة الثانية شكلت تحديا له، انصرف خلاله لرأب الصدع في صفوف حلفائه؛ في حين بدت سورية شامتة، وبدا حزب الله متربصا. وخلال أسبوعين، وبمساعدة المملكة أمكن تهدئة حركة جنبلاط المتسارعة؛ بحيث أعلن في النهاية عن بقائه إلى جانب سعد الحريري، وإن من خارج معسكر «14 آذار»! وهكذا اتجه الرئيس المكلف إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التفاوض مع الجنرال عون، باعتبار أن الاتفاق مع حزب الله وحركة أمل لا يزال ساري المفعول. وفي هذه المرحلة تصاعد الجدال مع الحزب، لأن أنصار الرئيس المكلف أعلنوا أن الحزب وعد بالمساعدة في إقناع الجنرال، وهو الآن يقول تارة إنه لم يعد، أو أنه لا يستطيع إقناع الجنرال بأي شيء. وفي المرحلة الثالثة هذه بدا أن الجنرال إنما يأتمر بأوامر سورية، ولا يرغب في تشكيل الحكومة. ولذلك فقد طالب الرئيس المكلف بخمسة حقائب بينها وزارة الداخلية (= وزارة سيادية)، ووزارة الاتصالات لصهره غير الناجح في الانتخابات، جبران باسيل. وأبرز ما شهدته هذه المرحلة، بالإضافة إلى تصلب الجنرال عون، إقبال أنصار سورية في لبنان جميعا على مهاجمة سعد الحريري شخصيا، ومهاجمة المحكمة ذات الطابع الدولي. وقد شارك في الهجوم وزير الخارجية السوري وليد المعلم. في حين دأب الرئيس المكلف على تأكيد انفتاحه وإصغائه إلى سائر مطالب الجنرال على أن تبقى منطقية، وتحت سقف الدستور والأعراف. بيد أن هذه المرحلة ختمت بالفعل بإعلان صهر الجنرال أنه إما تلبية المطالب وأداء الحقوق للجنرال وتياره وصهره.. أو الحرب الأهلية!

وكان التكليف بتشكيل الحكومة يدخل شهره الثالث، حين دخلنا المرحلة الرابعة بإعلان الرئيس المكلف عن نفاد صبره، وعن اتجاهه ـ بحسب صلاحياته الدستورية ـ إلى عرض تشكيلة يراها منطقية على رئيس الجمهورية؛ بغض النظر عما يطلبه هذا الفريق أو ذاك. وبحسب الدستور أيضا؛ فإن رئيس الجمهورية إما أن يوافق على التشكيلة فتصدر بها المراسيم، أو يرفض؛ فيعتذر الرئيس المكلف عن الاستمرار في مهمته، ويعود الأمر إلى مجلس النواب ورئيس الجمهورية لإجراء مشاورات، والعودة إلى تكليف الحريري ثانية باعتباره زعيم الأكثرية، أو أي شخص آخر تؤيده تلك الأكثرية وزعيمها. وقد تريث رئيس الجمهورية في قبول التشكيلة المعروضة، رغم أن فيها تنازلات كثيرة للمعارضة ومن ضمنها الجنرال عون. فصحيح أن الجنرال ما حصل على الداخلية أو الاتصالات؛ لكنه حصل على أربع حقائب ووزير دولة. وبين الحقائب وزارات التربية والأشغال والعمل والثقافة، كما حصل الطرف الشيعي على خمس حقائب بينها الخارجية والصحة. والطريف ما حصل في الساعات الأخيرة، أو ليل الاثنين/ الثلاثاء، فقد مضى الوزير غازي العريضي إلى المملكة، وأشيع أنه يعرض التخلي عن وزارة الاتصالات التي حصل عليها فريق جنبلاط، لإعطائها لعون وباسيل؛ تسهيلا لقبول عون بالتشكيلة كلها، أو مع بعض التعديلات الطفيفة الأخرى. وما وافق الرئيس المكلف على عرض جنبلاط والعريضي، وأعلن استعداده لقبول تعديلات طفيفة فقط على صيغته وإلا فالاعتذار.

ماذا حصل خلال الأسابيع بل السنوات الماضية، وماذا يمكن أن يحدث الآن؟ يمكن تلخيص الصراع السياسي أو الصراع على السلطة بين 2007 و2009 على أنه صراع بين النظام السوري من جهة، وحزب الله من جهة ثانية، على الجنرال عون! فبعد حرب تموز عام 2006، خرج الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة ـ وما كان الجنرال عون ممثلا فيها ـ، ولثلاثة أسباب: محاولة منع إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، وصرف الأنظار عن المسؤوليات والأعباء المترتبة على حرب تموز، وملاقاة سورية وإيران في عمليات المواجهة التي كانت جارية بالمنطقة، وعندما رأى الطرفان أن خروجهم لم يؤثر في المسار العام للحكومة والبلاد بسبب وجود أكثرية لقوى «14 آذار» في البرلمان، ووجود أكثرية الثلثين في الحكومة لصالح تلك القوى؛ فقد اتجهوا للهجوم على الحكومة بالقوة من أجل إسقاطها: اعتصمت المعارضة اللبنانية في وسط بيروت وحاصرت السراي الحكومي، وأقفل رئيس المجلس النيابي المجلس لمنعه من الاجتماع، وبعد سنة ونصف، وعندما اقترب موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تحجج حزب الله وأنصاره ببعض قرارات الحكومة، للإقدام على احتلال بيروت بقوة السلاح في 7 أيار عام 2008! وخلال مدة الحصار وإلى حين احتلال بيروت كان الشعار المرفوع هو المشاركة، والمشاركة تقتضي من وجهة نظرهم أن يكون لهم الثلث + 1 في مجلس الوزراء. ولأن تمثيلهم الذي خرجوا منه بأنفسهم كان عشرة وزراء؛ فهذا يعني أنهم كانوا يطالبون بزيادة وزير واحد من أنصار الجنرال عون. وقد تحقق لهم ذلك بالفعل في مؤتمر الدوحة، كما هو معروف، قبل نهاية أيار عام 2008، أي في نفس شهر احتلال بيروت! ورغم هذا الجهد الكبير الذي بذلوه من أجل إرضاء الجنرال، ومن ضمنه إحداث شرخ مع السنة دمر العلائق التاريخية بين المسلمين؛ فإن الجنرال لم يرض تماما عنهم، لأنهم في معمعة رئاسة الجمهورية اللاحقة ما استطاعوا الإتيان به رئيسا للجمهورية! وفي العام 2008، كما هو معروف ظهر الشرخ بين النظام السوري وحزب الله على أثر مقتل عماد مغنية، القائد الأمني للحزب. وكان الجنرال عون قد أدرك إمكان الابتزاز للطرفين؛ فمضى إلى سورية في «زيارة تاريخية» توجته خلالها زعيما للمسيحيين العرب! ثم عاد حزب الله لاجتذابه بالتحالف معه في الانتخابات النيابية، رجاء الإبقاء على غطائه المسيحي، ورجاء الحصول على الأكثرية في مجلس النواب. وهكذا حصل عون على فوائد طائلة، ومن ضمنها الفوز في عدة دوائر بسبب وجود الناخبين الشيعة فيها. لكن بعد الانتخابات التي احتفظت فيها قوى «14 آذار» بالأكثرية؛ عادت سورية لمغازلة الجنرال واجتذابه من طريق إدخال الموالين لها من النواب إلى تحالفه الذي وصل إلى حوالي الـ25 نائبا. ثم جاءت التجاذبات على تشكيل الحكومة التي كُلف سعد الحريري بتشكيلها؛ فمال حزب الله إلى تسهيل التشكيل في البداية، وبخاصة أنه حصل من الرئيس المكلف على كل ما أراد. وقد أزعج ذلك الجنرال الذي رأى أن الحزب تجاهل مطالبه وطموحاته، فأصغى للهمسات السورية وتشدد. فسارع الحزب إلى ملاقاته على ما يريد؛ فكانت المرحلتان الثالثة والرابعة من مراحل تشكيل الحكومة، وبدا فيهما الجنرال سيد الساحة والموقف، حيث مضى ممثل الحزب وممثل الرئيس بري إلى رئيس الجمهورية يقودهما السيد جبران باسيل؛ لرفض التشكيلة التي عرضها الرئيس المكلف سعد الحريري!

صرفت مشكلات تشكيل الحكومة اللبنانية أنظار وسائل الإعلام المحلية عما يجري في المنطقة. وفي المنطقة الآن تجاذب يتنامى بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن الاستيطان. وفي المنطقة صراع إعلامي عنيف بين العراق وسورية بشأن المسؤوليات عن الإرهاب في العراق، وقلق سوري بشأن مواقع دمشق الجديدة في محيطها. وفي المنطقة أيضا، وأيضا اشتداد التوتر بين الأطراف الدولية وإيران مع اقتراب مواعيد النظر في مجلس الأمن في الملف النووي الإيراني أواخر شهر أيلول (سبتمبر) الحالي. ولأن سائر الأطراف في لبنان تتأثر كثيرا أو قليلا بالأطراف الفاعلة في المنطقة؛ فالذي يبدو أن أمد التجاذب على تشكيل الحكومة اللبنانية، سوف يطول ولن يقصر. وفي الساحة اللبنانية التي انصرفت عنها الأضواء، يبدو الجنرال عون فارسها المجلّى، إلى حدود أزعجت وليد بيك، الذي لا ينقصه الإحساس بأهمية الفروسية، ورحم الله دون كيخوته وصانعه سرفانتس!