تأديب الماغوط

TT

أعطى الحزب السوري القومي في لبنان وسورية وفلسطين، خلال حقبة طويلة بعض أبرز وألمع شعراء وكتاب المرحلة. ولا حصر للأسماء. فقط على سبيل المثال: أدونيس، محمد الماغوط، عزيز العظمة، خالد القطمة، كمال خير بك، يوسف صايغ، فؤاد سليمان، سعيد تقي الدين، حليم بركات، هشام شرابي وسواهم.

هؤلاء السادة الكبار، كانوا أيضاً فنانين. بمعنى أنهم كانوا بشراً، يتألمون، ويضحكون، ويجوعون، ولم يكونوا أحجاراً من الباطون ولا بلاطات لها قياسات محدودة. ولأنهم فنانون، أي غير عاديين، فقد التزموا أفكار الحزب لكنهم راحوا يحلقون في آفاق ملونة جميلة وساحرة، لعل بين أجملها وأبقاها، ما تركه لنا ساحر من السلمية يدعى محمد الماغوط.

كان الماغوط أسلوباً، وحياة، وسيرة، وشعراً، ونثراً مختلفاً ومثيراً، في عالم عربي متحجر، يرفض النبوغ والتجدد والتغريد المطلق. وكان مكوَّناً من تراب آخر، وطفولة أخرى، ومن موهبة طاغية، حافظ على براءتها وأصالتها وطبيعتها وجمالها القمري الأول. وكان تلميذاً نابغاً لسخرية سعيد تقي الدين، وجماليات فؤاد سليمان، ولكن بأكثر حدة وأكثر رونقاً وألماً وإيقاعاً.

وهؤلاء السادة الشعراء والكتَّاب، هم الذين أعطوا الحزب السوري القومي تميزه ولونه. وهم الذين اجتذبوا جيلاً كاملاً من المناصرين أو الحزبيين، بعدما اجتذب المؤسس انطون سعادة الجيل الأول، أيضاً بفكره النقدي وأدبياته الجلى.

وقد آلمني كتاب الزميل جان دايه الجديد «محمد الماغوط وصوبيا الحزب القومي» لأنه أشبه بمحاكمة حزبية لسيد البلابل. والأستاذ دايه يعامل موهبة في حجم موهبة الماغوط، وكأن صاحبها مجرد نفر متمرد في فرع حلب أو حماة أو السلمية.

بدل أن يمارس جان دايه مهمته المتقنة كمحقق أدبي تحول إلى محقق أيديولوجي في خروج الماغوط على النمط والسياق. ونرى ضعف الماغوط الإنساني، وهو رأسماله الأول، يتحول هنا إلى مخالفات اقتضى ضبطها وإحالتها على التأديب. وفي البحث عن «الحقائق» و«الإثباتات» في بدايات الشاعر الساحر، يضيع عبق الشعر ورحيق العبقرية ويحال على الصمت بعض أجمل تغريد الحقبة.